كل تطور لابد أن يكون مدفوعاً بالبحث العلمي.. فلنجرّب اقتصاد المعرفة!! البحوث الزراعية: أسهمنا في توفير ثلاثة مليارات ليرة من الحبوب ونجري 60 ألف اختبار وتحليل سنوياً
سبق للخطة الخمسية العاشرة أن استهدفت رفع الإنفاق على البحث العلمي، للوصول به إلى واحد بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي حتى عام 2010، ومن ثم إلى اثنين بالمئة حتى 2020، لكن ما تحقق واقعياً حتى الآن، كان أقل بكثير من نصف بالمئة، وهي نسبة بطبيعة الحال تتماشى -نسبياً- مع الإنفاق العربي في هذا المجال، الذي هو دون واحد بالمئة، ومن أقل معدلات الإنفاق حول العالم، فلدى العرب 50 ألف باحث مختص، مقابل 325 ألفاً لدى كوريا الجنوبية ذات الـ52 مليون نسمة، هذا مع اختلاف جودة الأبحاث والباحثين..!.
محلياً، ننادي بطروح جيدة.. إحلال بدائل المستوردات، رفع تنافسية المنتج المحلي، تقوية شعار “صُنع في سورية”، إعادة إحياء أسواق تقليدية وفتح أخرى جديدة، لكن من الواضح أن أننا سنجد صعوبة في تحقيق الكثير من هذه الأهداف، دون إنفاق سخي على التطوير والابتكار، وهذا لن يكون في مرمى منظومة الأهداف الناجحة، في ظل تواضع أرقام هذا الإنفاق حالياً، لذا لابد من قرارات استراتيجية بدعم الأبحاث والابتكارات، وصولاً إلى دخول اقتصاد المعرفة، ولو من أضيق أبوابه..
البحث العلمي مسبّب للرفاه
لا ينادي المدير العام للهيئة العليا للبحث العلمي الدكتور مجد الجمالي بتمويل البحث العلمي، بل بالاستثمار فيه، لأن ثمة مردودية لكل ليرة تنفق في الأبحاث ومشاريع التطوير، إذ ليس صحيحاً أن تطور وازدهار البيئة البحثية، مرتبط برفاه الأمم اقتصادياً واجتماعياً، فأمة البحث العلمي والابتكار تنتج تطوراً، يفضي بالضرورة إلى مثل هذا الرفاه على المستويات كافة، وتشكّل اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا وغيرها أمثلة واقعية على ذلك، بينما لم تنتج أموال النفط العربي، على ضخامتها، تطوّراً تقنياً وإبداعاً معرفياً..!.
تنشيط الإنتاج ولكن..
تنشيط الإنتاج مطلب حكومي، مثلما هو مطلب شعبي، ولكن السؤال المطروح -المشروع هنا: عن أي إنتاج نتحدّث، بأية تكاليف، وبأية شروط منافسة محلياً وخارجياً..؟ فحتى على مستوى الصناعات الوطنية العريقة، التي تنشط في أسواق تقليدية، كالصناعات الغذائية والنسيجية، نجدها كثيراً ما تفشل في اختبار المنافسة مع المنتجات الأخرى في تلك الأسواق، ولاسيما لجهة الجودة التي هي من أهم محدّدات السعر، فمثلاً هناك قميص محلي ذو جودة عالية، بعشرة دولارات، بينما يباع قميص من منشأ صيني أو هندي جودته عالية أيضاً بخمسة دولارات أو أقل، فأين تكمن المشكلة إذن..؟!.
إنها في ضعف الأبحاث
تخدم الأبحاث العلمية المنتجات على مسارين.. تقديم حلول للمشكلات التي قد تعترض الصناعة، وتخفيض تكاليف الإنتاج، ما يعزّز قدرتها على المنافسة، وثمة صناعات وطنية كثيرة تراجعت، أو انسحبت من السوق لمصلحة المنتجات المستوردة، بسبب ارتفاع أسعارها، وبالتالي ضعف قدرتها على مجاراة منافسيها، فالأبحاث تحدّ من الهدر.. وتغيّر في الخلطات والتراكيب.. وتستخدم تقانة متطوّرة، وما إلى ذلك..
تمثل صناعة الإسمنت دليلاً واضحاً على ضعف فرصة الإسمنت المحلي في منافسة المستورد، ويحذر خبراء من إغلاق بعض المصانع في حال سُمح بالاستيراد، فمثلاً تكلفة إنتاج الطن محلياً تتراوح بين 90 -110 دولارات، مقابل 20 – 30 دولاراً في إيران (واصل إلى سورية 40 – 50 دولاراً)، و50 دولاراً في مصر، وأعلى قليلاً في الأردن، ولما كان الجزء الأكبر من هذه التكاليف يعود إلى حوامل الطاقة، فإن الاعتماد على الطاقات البديلة والمتجددة، سيقلل من هذه التكاليف بنسبة تتجاوز الربع.. فصناعة الإسمنت المصرية، باتت تعتمد على هذه الطاقات بشكل رئيس، كما أن المخلفات المنزلية هناك تسهم في إنتاج نحو 30% من الطاقة، وهكذا فإن خفض التكاليف هنا، جاء نتيجة أبحاث حول استخدامات الطاقات المتجدّدة والبديلة في هذه الصناعة.
ماذا عن البحوث الزراعية..؟
تكتسب البحوث في القطاع الزراعي أهمية خاصة، لكونها تسهم في تخفيض تكاليف الإنتاج، وسدّ الفجوة الغذائية، وتحقيق الكفاية، وما إلى ذلك من نتائج، وتؤدّي الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية، إلى جانب هيئات بحثية أخرى، دوراً مهماً في تنفيذ بحوث تحسين الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني، وذلك على الرغم من انخفاض حجم الاعتمادات المخصصة لها خلال السنوات الأخيرة، وفقاً لما يقول مدير الدراسات الاقتصادية في الهيئة الدكتور فايز المقداد، إلى نحو 50 – 75% بالمتوسط، قياساً إلى ما كان عليه سابقاً بالقيمة الاسمية، وإلى أقل من 10% بالقيمة الحقيقية والأسعار الثابتة لعام 2010.
ويشير المقداد إلى أن تقديرات أولية صادرة عن الهيئة، أفادت بأن الجهود البحثية لديها أسهمت في توفير ثلاثة مليارات ليرة سورية من الحبوب سنوياً، بسبب إحلال تراكيب وراثية جديدة من القمح والمحاصيل الأخرى، مبيّناً أنه نتيجة هذه الجهود والتعاون مع وزارة الزراعة وجهات حكومية أخرى، ارتفعت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي من 16.5% عام 2011، إلى 24.6% في 2017، اعتماداً على تقديرات المكتب المركزي للإحصاء.
مساعدة ..
تؤكد الهيئة أن البحث العلمي الزراعي ساعد مئات الآلاف من المزارعين ومربّي الثروة الحيوانية، الذين يمارسون نشاطهم على مساحة ستة ملايين هكتار من الأراضي القابلة للاستثمار الزراعي، عبر زيادة إنتاج الغلة اعتماداً على المدخلات نفسها، وتحسين السلالات المستنبطة، واستدامة الموارد، والتكيّف مع المتغيّرات البيئية، وإيجاد بدائل عملية (الأسمدة المحلية وأنظمة المكافحة الحيوية)، وكانت الترجمة البحثية لهذه المساعدة بالتحسين الوراثي للحبوب والبقوليات وإنشاء المجمعات الوراثية لحماية الأصول النباتية من الضياع، كذلك استنباط الأقماح القاسية والطرية الملائمة لمناطق الاستقرار المختلفة، التي تراوحت إنتاجيتها بين 2.3 – 7.4 أطنان/هكتار، ما حوّل سورية إلى بلد مكتفٍ ذاتياً ومصدّر، فضلاً عن تحسين أصناف الشعير والذرة والأشجار المثمرة والخضار.
أيضاً تحلل الهيئة وتختبر عينات نباتية وحيوانية (دم، حليب، لحم)، إضافة إلى مبيدات وأعلاف وتربة وأسمدة ومياه وزيوت وقطن وغيرها.. ويصل المعدل السنوي إلى 60 ألف اختبار وتحليل، كما تعمل على تحسين وانتخاب سلالات الأغنام العواس والماعز الشامي والجبلي والإبل والجاموس، في موازاة الزراعات البديلة وتقنية الأغذية وسلامتها، ودراسات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الريف.
مؤشرات إقليمية وعالمية
يبلغ متوسط الإنفاق على البحث العلمي الزراعي، حول العالم، بحدود 2.3% بالمئة من الناتج الإجمالي العالمي، وذلك وفقاً لقاعدة بيانات البنك الدولي، ويبلغ في أميركا الشمالية 2.7%، وفي الاتحاد الأوروبي 2.06%، وفي الدول المرتفعة الدخل 2.57%، وفي المنخفضة والمتوسطة الدخل 1.48%، أما متوسط الإنفاق العربي، فهو 0.56%، وتنفق الإمارات العربية المتحدة 0.96%، والأردن 0.72%، ومصر 0.60%.
يبقى أن..
اقتصاد المعرفة قاد دولاً فقيرة ومهمّشة إلى صدارة دول العالم المتقدم، بينما لم يقدّم اقتصاد المواد الأولية والخامات والمعادن والنفط الكثير للدول التي تنتجها، ولطالما جرّبنا كثيراً من الاقتصادات والخطط والبرامج.. فهلّا جرّبنا هذه المرة اقتصاد المعرفة، وزدنا جرعة البحث العلمي ابتكاراً وإنفاقاً..؟!.
أحمد العمار
ournamar@yahoo.com