أخبارصحيفة البعث

نحن بين «الكاترينية» و«التشرشلية»!..

 

د. مهدي دخل الله

اعتادت قيصرة روسيا الشهيرة كاترين القول: «الحُكم ليس أن تعرف الحاضر، وإنما أن تكشف القادم»، في المقابل كان رئيس وزراء بريطانيا أيام الحرب العالمية الثانية ونستون تشرشل يردد: «من الخطأ النظر بعيداً إلى الأمام، فالحكم يعني التركيز على الحلقة الحالية في سلسلة المصير». قولان متناقضان، فأيهما أقرب إلى الحكمة؟ وأين نحن من كل منهما؟؟..
مصطلح الحُكم حيّر المجتمعات كافة، كبيرها وصغيرها، متطورها ومتخلفها، ويزداد هذا المصطلح تعقيداً أثناء الحروب والأزمات بسبب ازدياد عدد المشكلات والقضايا التي تبحث عن حل.
ولا شك في أن الحُكم يستند إلى معنيين متناقضين، الحكمة والسلطة. فالحكمة مفهوم معرفي والسلطة مفهوم سلوكي. الحكمة هي معرفة حقائق الأشياء والأوضاع وجوهرها وفق قدرة الحكيم على الفهم، أما السلطة فهي مفهوم أداتي يتضمن الجبر، لأنها تعني فرض إرادة على غيرها من الإرادات..
ويبدو أن هناك مشكلة عميقة عندما يكون الحكيم دون سلطة، لأن حكمته عندها لاتترك أثراً في الواقع، والمشكلة تكون أكثر عمقاً عندما يكون ذو السلطة غير متمكن من الحكمة، لذا فإن أفضل أنواع الحكم هو ذاك الذي يجمع بين الحكمة والسلطة أو القدرة..
ولما كان جوهر الواقع متحركاً، أي متغيراً، كانت معرفة المستقبل بمعنى توقعه أهم مضامين الحكمة، شرط أن يكون التعامل مع هذه المعرفة تعاملاً عقلانياً يتفق مع طبيعة الأشياء وطبائع البشر..
استناداً إلى هذا كانت الامبراطورة الروسية كاترين حكيمة عندما رأت أن الحكم معرفة القادم، المستقبل، وبالتالي كيفية التعامل معه، بينما كان تشرشل أقل حكمة، لأنه اكتفى بالمستوى السكوني للواقع عندما رأى أنه من الخطأ النظر إلى الأمام..
المستقبل يولد اليوم، هذا أمر أكيد، ولا مجال للحكم الرشيد أو الحكم الحكيم في أن يتخلى عن هذا الاختيار الكبير، خاصة وأننا في سورية نشهد امتحاناً تاريخياً صعباً يؤسس للمستقبل.
من المهم جداً أن الحكم والحاكم لدينا من أفضل من جمع بين الحكمة والقدرة (أي السلطة) في التاريخ العالمي المعاصر، وهو بهذا المزج بين الاثنين أنقذ بلدنا من براثن أكثر الوحوش وحشية في العصر الراهن. لكن المشكلة أن أعداداً كبيرة من الناس تركّز في فهمها للواقع على “الحلقة الحالية في سلسلة المصير” كما يقول تشرشل، حتى إن كثيراً من المثقفين الوطنيين لايريدون – أو لا يستطيعون – النظر إلى ما هو قادم استناداً إلى ما هو قائم..
سورية اليوم تلعب دوراً مفتاحياً ومؤسساً في بناء مستقبل المنطقة، وهذا يلقي على عاتقنا مهام ضخمة قد تنوء من حملها الجبال، إنها “الأمانة” الوطنية التي رفضتها الجبال، فحملها الإنسان… أو بعض الإنسان..
ولا شك في أن متجمعنا إذا استطاع، بمجمل وعيه الانتقال من «التشرشلية» إلى «الكاترينية» يكون بذلك قد ارتقى إلى أفضل المجتمعات التي استطاعت صناعة التاريخ على الإطلاق..

mahdidakhlala@gmail.com