زكي ناصيف الكلاسيكي المتجدد
رغم أنه ينتمي حسب التصنيف الزمني الواقعي إلى الكلاسيكيين بتاريخ الأغنية اللبنانية، إلا أنه إبداعيا وبالتوقيت الإبداعي الفني، يظهر في كل مرة تترد فيها أغانيه، وكأنه أحد فصول الحياة المتوالية،مشعا كما الربيع، رائقا كعذوبة ليالي الصيف، عتيقا كنبيذ في دير، دفاقا كشتاء هادر، زكي ناصيف الفنان العربي الأصيل، ابن قرية “مشغرة” بما تحمله هذا القرية من رمزية إنسانية ووطنية ضاربة جذورها في عمق التاريخ، نيزك هادر في سماء الفن العربي، وواحدا من أعمدته الأكثر رسوخا.
آخر العنقود ستترك في وجدانه أغاني الحزن التي كانت ترددها والدته السيدة “رشيدة إبراهيم” وهو هائم حولها وحيالها، أثرا عظيما في تشكيل ذائقته الفنية الأصيلة، فأغاني الأم التي كانت تترنم بها على رهافة مسامعه الطفولية، هي من التراتيل السريانية، عدا عن كونها متأثرة بطبيعة “مشغرة” الجبلية الصافية، وبما لتلك الطبيعة الجغرافية من صفات تربي الشمم في النفس، إن اجتماع هذا الأثر التربوي الهام، مع الطبيعة السامية لتلك الذرى العالية –مسكن الأولمب- شكل الأساس الفكري والفني عند هذه القامة الفنية الباذخة السمو، فالأصالة التي جاء بها نتاجه الفني في مختلف أغانيه، سواء تلك التي غناها بصوته أو غناها بعض أهم الفنانين اللبنانيين “فيروز، وديع الصافي، صباح، نصري شمس الدين، نجاح سلام، سميرة توفيق، جوزيف عازار وغيرهم”، حملت هذه السمة كدليل متجذر فيها، فصار حتى من يرددها، يصيبه هذا الشعور العالي بالانتماء الوطني والإنساني والعاطفي، لأن روح تلك الأغاني منبتها التراث الفني المحلي، وهي مُعشقة بأنواع فنية أصيلة أخرى، العتابا، الميجانا، أبو الزلف، تدلف إلى الوجدان بكل يُسر وجمال، مألوفة لمن يستمع إليها وكأنها تمشي بدمه، لكنها أيضا بعيدة عن الرتابة الكلاسيكية، حداثوية المعنى والشعرية، رقيقة الموسيقا رشيقة الإيقاع، تجتمع فيها كل المواصفات التي تجعل السمع يعشق البهاء الذي يصب كشلالات ضوء في روحه، وهي قادرة في كل مرة وفي كل زمن، أن تبز بحضورها كل ما هو موجود من الأغاني والموسيقا الرائجة، إذ يكفي أن تصدح مثلا أغنية “راجع يتعمر لبنان” في أي وقت، حتى تتساقط كل الأغاني الرائجة اليوم، الأغنية التي تليق بأن تكون نشيدا وطنيا جامعا، خصوصا وأنها حملت هذه المهمة الثقيلة في الوقت الأصعب الذي مرّ بالتاريخ اللبناني الحديث، ففي عام 1970 والحرب الأهلية مستعر أوارها في ربوع لبنان، سيخرج “زكي ناصيف” على أبناء وطنه والعالم بأغنية تزلزل الوجدان، حتى أنها تنافس النشيد الوطني اللبناني، وذلك لما تركته من عظيم أثر في النفوس التي لوعتها الحرب، ولتصبح هذه الأغنية، هي التي تُفتتح بها أهم المهرجانات الفنية في لبنان حتى اليوم.
أما الإعجاز الإبداعي عند هذا الفنان المجيد، فجاء قبل أن يغادر الدنيا بقرابة العشر سنوات، عندما أدهش العالم بما قدمه من أغان للسيدة فيروز، التي غنته “فيروز تغني زكي ناصيف”، ويمكن من عنوان هذا العمل الفني المدهش حقا، أن نعرف أي مكانة رفيعة وفريدة ينزل فيها هذا الإنسان، ففيروز مالئة الدنيا وشاغلة الناس، تُفصح عن تقديمها فروض الاحترام الفني والإنساني لهذا الفنان الكبير.
التاريخ الذي تحمل غرته ذكرى رحيله في مثل هذا اليوم من عام 2004، فيه الكثير من الحكايات والذكريات الخالدة في حياة هذا الإنسان الفريد، فهو المولود في 4 تموز عام 1918 في مشغرة،والده شاكر ناصيف التاجر الذي كان بيته يضم أهم الأسطوانات الموسيقية والفنية، تلك التي كان لها أثرها في كشف الرحابة عن روح الفتى الذي كان يساعد والده في تجارته، عندما غلبه حسه الفني المُلح، فتفرغ للفن معتبرا أنه في مهمة جسيمة وحاسمة، وهذا ما كان منه، فهو يُعتبر واحدا من أهم حوامل وصُناع نهضة لبنان الفنية، شكل مع “الأخوين رحباني، فيلمون وهبة، توفيق الباشا” ما عرف ب: “عصبة الخمسة”، والتي كان واحدا من أهم هواجسها هو تعزيز الموسيقى الحديثة مع المحافظة على هوية الموسيقى المحلية، لتبدأ الفترة الذهبية للفن اللبناني الذي طار على كل لسان، ولتصدح أجمل الأصوات وأهمها من المهرجانات التي قامت هذه العصبة بإطلاقها إلى العالم، ومنها المهرجان الغنائي الأهم “مهرجان بعلبك الدولي”، وكان من أهم وأجمل ما قدمه هذا المهرجان من أغان لبنانية خالدة في الوجدان الجمعي ومنها “طلوا حبابنا طلوا”، الأغنية التي صارت رمزا من رموز الحضارة الفنية والوطنية والإنسانية.
زكي ناصيف صار بيرقا مشتعلا لا يخفت وهجه، قدم فنا غنائيا وموسيقيا راقيا، الأصالة المتجددة واحدة من أهم صفاته، ولسوف يمر زمنا ليس بالقصير، قبل أن يُصبح ما قدمه كلاسيكيا بالمفهوم المادي للكلاسيكية.
تمّام علي بركات