الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

في محطة البنزين!؟

 

د. نهلة عيسى
توقف بجانب سيارتي, وأنا في طابور انتظار دوري في محطة البنزين, ثم أخبرني بخجل أنه بحاجة إلى مبلغ صغير للوصول إلى منزله لأن محفظة نقوده إما سرقت أو سقطت منه دون أن يدري, نظرت إليه فبدا شاباً صغيراً أنيقاً ومهذباً, فأخرجت من محفظتي ألف ليرة, وسألته: هل هذا كافٍ؟, فرد: بل كثير, فقلت: هو لك, فشكرني, وتوهمت ما يشبه الدمعة في واحدة من عينيه, وانصرف, وتابعت تحديقي في اللا شيء, باعتبار أن وقوفي في الطابور الطويل, سوف يستغرق وقتاً, من حقي فيه أن أكون بلهاء!!.
استفقت من بلاهتي على صوت زاعق أشبه بالشتيمة, صادر عن “زمور” السيارة التي خلفي, يخبرني بها أن أتقدم مترين إلى الأمام, علماً بأن التقدم لن يغير في حالنا شيئاً, لأن الطابور ما يزال مثل صاحب الظل الطويل, ولكني تقدمت, ثم نظرت عبر مرآة السيارة إلى الخلف لأرى إن كان جاري قد ارتاح, فاستوقفني منظر ذات الشاب الخجول, صاحب قصة المحفظة المسروقة ينتقل من سيارة إلى أخرى في الطابور الممتد الطويل راوياً ذات الحكاية، فداهمني الضحك, وأعجبتني فكرة التسول الأنيق “الفايف ستارز”!!. فترجلت من سيارتي, وذهبت باتجاه الشاب المتسول المبتكر, وفور أن رآني بدأ بالركض, فصرخت: يا أحمق في المرة القادمة, “اقبض واهرب”, إياك والتسول في ذات المكان, غيّر المحطة, غيّر المكان, وإلا فستقع في “المان والكان”, فرفع لي من بعيد يده علامة الموافقة, فالتفتت نحو السيارة التي بجانبي, وقلت للرجل فيها, وفي يده ورقة المئتين: هل ترى, محظوظة أنا, لقد كسبتُ صديقين, المتبرع الغافل, واللص الشيك, فابتسم الرجل!؟.
عدت إلى سيارتي, ووجدت جاري النزق خلف سيارتي محاولاً دفعها نحو الأمام من أجل مترين جديدين, وكأن مصير الكون كله متوقف على هذين المترين, وعرفت أنه ستفرض علي مشاجرة, شئت ذلك أم أبيت, فتقدمت نحو سيارتي وفي البال مقولة “يا قاتل يا مقتول”, أنا التي تكره كل مفروض, بداية بالقوالب, والوجبات الجاهزة, وأسماء الإشارة, ونهاية بإشارات المرور,لأنها تلغي اللا في وجه العدم, وتجهل من نحن ولا تُعرّف أحداً بأحد, وأجدها صيغاً للتبخيس وليس للتدليل, وصوتاً ملحاً يأمرني: أفعلي ولا تفعلي, ليجعلني نسخة من نسخ, وأنا أكره النسخ!.
تقدمت باتجاه الرجل, فاستدار نحوي وفي عينيه شرر, وعلى فمه بقايا سباب لم يكتمل, وفوجئت أن الشرر قد استحال في لحظة إلى دهشة تلتها بهجة, وأن السباب تحول إلى أهلا وسهلاً, فأصابني الوجوم وتوقفت, فاتجه نحوي يكاد يعانقني: دكتورة ألا تذكريني أنا فلان الفلاني, طالبك المتخرج منذ سنين, ولكنك في القلب والبال تعيشين, فعانقته أنا, وتبادلنا الكلام وبعض الذكريات, وأرقام التليفونات, وشتمنا معاً “الزمامير” خلفنا, وضحكنا مثل طفلين معاً, وانتهت حرب المترين باتفاق على لقاء قريب وقبلتين!.
ركبت سيارتي من جديد, وقطعت المترين إلى الأمام, وعدت للبلاهة, وللتفكير لماذا أكره أسماء الإشارة, ترى لأنها تقاطع الحقيقة, وتسد أبواب السؤال الراغب في جواب لا يدخل المرء في جدلية أننا كلنا متشابهون, كلنا سواء! ليس صحيحاً هذاالكلام, نحن لسنا سواء, ووحدها أسماء الإشارة تجعل أعمارنا هباء, وحكايات بلا أسماء, هذا فعل كذا, وتلك قالت كذا, وذاك مات, رغم أن الموت في وطننا بات أشبه بسيوف زينة تتدلى في استعراض, نبلها مدفون خلف تلال الرماد لا يُرى, لأنه لا يمكن لمن يعانق الردى, أن يُرى؟
أكره أسماء الإشارة, وإذا ما سألتموني لماذا؟ سأرد بأني أكره أيضاً أن أسأل لماذا!؟ لأني في حالات كثيرة لاأعرف لماذا أحب وأكره, ولذلك عندما أكتب يخطر لي مراراً أن أتمدد فوق الجمل, وأن أتمشى على خط الكتابة, فأركل في طريقي همزة, أو أقضم ضمة, ثم أفكر في علك كل الحروف لتختفي من رأسي, فأنعم بالصمت الجميل, فلا أسمع لا هذا, ولا ذاك, ولا من, ولا على, ولا حتى “هلا”!!حربنا.. حرب حروف, بدأت باغتيال أسماء العلم ولام التعريف, ولن تنتهي مالم تعلق على المشانق رؤوس أسماء الإشارة, ومزامير التسابق على مترين في محطات البنزين!!.