ثقافةصحيفة البعث

في ذكرى رحيله عبد الغني العطري: أديب الصحفيين وصحفي الأدباء

“الكبار لا يموتون لأنهم باقون بأعمالهم وإبداعاتهم.. من هنا فإن الاحتفاء بهم والاهتمام بحيواتهم أمر ضروري، ليس فقط تقديراً لهم ولما قدموه وأثّروا به على صعيد اللغة والأدب، بل لنتعلم منهم” بهذه الكلمات بدأ الباحث غسان كلاس كلامه في الندوة التي أقيمت مؤخراً في مركز ثقافي أبو رمانة بمناسبة ذكرى رحيل أديب الصحفيين وصحفي الأدباء عبد الغني العطري، مؤكداً كلاس أن العطري شخصية كبيرة تحتذى لريادته في أكثر من مجال، فالعطري يُعتبر أحد المؤسسين المهمين للصحافة في سورية وفي ظل ظروف صعبة كالاحتلال الفرنسي وغلاء المعيشة وشحّ الورق أصدر جريدة “الصباح” وهو فتى في العشرين من عمره وقد توقفت بعد أن حاول الكثيرون عرقلة عمله، لكنه أصرّ على المتابعة مستمراً في عالم الصحافة الذي أحبه وأخلص له من خلال مجلة “الدنيا” و”الدنيا الجديدة”: “أسستُها بالعرق والدموع، وبذلت فيها صحتي”.. مشيراً كلاس إلى أن أول قصيدة نشرها نزار قباني كانت في مجلة “الصباح” التي أسسها العطري والتي كانت منبراً لأدباء وشعراء وصحفيي سورية ولبنان على مدى ثمانية عشر عاماً كبدوي الجبل وعبد السلام العجيلي وخليل مردم بك ومحمد البزم وخليل هنداوي ومحمود تيمور، وآخرين، وقد استطاع من خلالها العطري أن يرسي قواعد أساسية في الحياة الأدبية والصحفية في سورية، كما التقى من خلال عمله الصحفي بالنجوم العرب الذين زاروا سورية: أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، محمد عبد الوهاب، نجاة الصغيرة، فريد الأطرش، فيروز والرحابنة، نصري شمس الدين.

عبقريات
ويبين غسان كلاس أنه التقى بالعطري في تسعينيات القرن الماضي وكان يتردد إلى مكتبه الذي كان قبلة الأدباء والمفكرين والإعلاميين والصحفيين والفنانين، فكان المكتب منتدى ثقافياً يتعلم فيه المرء كيفية النهوض من الكبوات التي يتعرض لها والاستمرار في النجاح، موضحاً كلاس أن العطري عندما أدّى الرسالة الصحفية التفت إلى توثيق حياة وسير الأدباء والمفكرين، فكان رائداً في توثيق حياة أولئك الأشخاص الذين أثروا وأغنوا حياتنا الوطنية والفكرية والأدبية، فكتب سلسلة مهمة تحت عنوان “عبقريات” وأطلق على كل جزء منها اسماً معيّناً مثل “أعلام ومبدعون-عبقريات-مبدعون من بلادي” تحدَّث فيها عن أكثر من ثلاثمئة شخصية سورية بلغة سليمة وجمل موحية وأسلوب سلس، فالعطري كان متمكناً من اللغة العربية ولا عجب في ذلك، فأستاذه خليل مردم بيك وهذه النقطة تسجّل له ولجيله: “وما أحوجنا اليوم إلى تلك القدوات” إلى جانب تمكنه من اللغة الفرنسية التي أهَّلته لأن يترجم العديد من الأعمال لكبار الكتّاب الفرنسيين، منوهاً كلاس إلى أن العطري كان أول من وَثَّق للأدب الضاحك في أدبنا العربي تحت عنوان “أدبُنا الضاحك” كما كتبَ “بخلاء معاصرون” و”دفاعاً عن الضحك”.

نبع يتدفق من صخر
أما د.سامر العطري نجل الأديب عبد الغنى العطري فقد تخيّر ثلاث خصال من جوانب والده للحديث عنها، الأولى: تتلخص في فن الاختلاف الذي كان يجيده وإيمانه بأن الخلاف لا يفسد للود قضية، فقد رفع والده هذا الشعار مع ألد من يختلف معه، فالحضور الهادئ كان وسيلته لعلاج الأزمات والمشكلات كافة، وفي يقينه وقناعته أنه من الطبيعي أن نكون مختلفين لا متخالفين، ثانياً: الحدس العبقري الذي كان يتحلى به في قراءة أفكار الناس، فقد كان عارفاً ببواطن الرجال ونوعياتهم، فما خاب حدسه في إنسان ولا جازف بتوقعاته اتجاه قضية ما، وهي قدرة استثنائية برأيه تحتاج إلى عين ثاقبة وبصيرة واعية وملاحظة حاضرة، وتجلى ذلك في أدائه وأسلوبه واستشعاراته، ثالثاً: الصبر والنفس الطويل والأمل الذي لا ينتهي، فكان بحق مدرسة بالصبر والمثابرة ولا ينسى مقولته له: “الأيام لك وعليك وهي مستمرة بالدوران وإن الانتصار الأخير لمن يملك الصبر” مشيراً إلى أن والده كان زكي النفس، حسن العشرة، صادقاً بقوله وعمله، كما كان صاحب أخبار ونوادر وله معرفة بأقوال الناس، وكان الأديب والإعلامي والسياسي الذي لطالما بنى حياته في أصعب الظروف والتحديات بانسجام أتعبه بين نقيضين عايشهما بذكاء وبهاء،لذلك هو صفحة من كتاب ذلك الزمن الجميل الذي كان فيه للقيم والمثل والمبادئ ملامح بيضاء، موضحاً أنه كان سليل عائلة تجارية وقد ظهرت ميوله الأدبية باكراً وبنى طموحه رغم صعوبة الواقع وحوّل أحلامه إلى ممكنات وهو يقترب من منتصف الثمانينيات من عمره،وكان في عامه الأخير نقياً مثل نبع يتدفق من صخر، وظل طفلاً تسحره بروق الغيم فيمضي دائماً إلى الحكاية القادمة والغد الأجمل الذي ظله يحلم به .
ويختتم د.سامر العطري كلامه قائلاً: “عندما يكون الأب واحداً من الكبار فأنت حين رحيله أمام نكبة كبيرة مزدوجة: فقدان الأب الخالد فيك وخسارة المثل الحاضر في ضميرك ووجودك ومحيطك”.
قدمت في الندوة مداخلات عديدة شارك فيها: الباحث أحمد المفتي، د.نزار بني المرجة، د.أنس تللو، أحمد هلال، كما افتتحت الندوة بعرض فيلم وثائقي عن الراحل رصد مسيرته وتضمن شهادات من محبيه وأصدقائه من إعداد الأديب غسان كلاس.

أمينة عباس