ع البـــــال يا عصفـــــورة النهريـــــن
تخطر الفنانة السورية “نورمان أسعد” في بال الجمهور، كواحدة من أجمل الممثلات في الدراما المحلية، الجمال العربي القادم من حكايات ألف ليلة وليلة، ومسحة الحزن الخفيض التي علت ملامحها بداية اشتغالها في فن التمثيل، جعلت من بنت “قرية “بنجارو” في الساحل السوري، تخطف الأنظار والقلوب معا، حينها كانت فرادة كل ممثلة يصنعها الأداء الذي تقدمه، ومع “تكت” جمال رباني وهبته الطبيعة البكر، حجزت “نورمان” مقعدها الخاص في عالم النجومية في الدراما، مقعد بقي شاغرا حد اللحظة بعد أن قررت الاعتزال والتفرغ لعائلتها، لكن هذا لن يعني أن تكون غائبة، فمع كل عمل لها يُعاد عرضه، تفوز ودون سابق تفكير بعاطفة المشاهد، فيشعر أنها بالأمس القريب كانت في واحد من أماكن التصوير، تحضر عملا جديدا له منتظريه وهم شريحة واسعة من محبيها وليس “فانزاتها” وهي وإن ذهبت في أوج فترتها الذهبية، نحو تقديم أعمال “كوميدية”، تحضر الكوميديا فيها عن طريق “الزحلطة” والزعيق واللعب العمومي بالألفاظ، إلا أن عملا دراميا جيدا تظهر فيه، لسوف يضعها في مكانها الصحيح عند الجمهور، ممثلة من الطراز الرفيع، وعالميا ربما يمكن أن تحضر كمنافسة لها الممثلة “مونيكا بيلوتشي”، كلتيهما تحوزان جمالا مبهرا، لكن ذلك لن يسطو على أدائهما التمثيلي، وهذه نقطة هامة في جوهر التمثيل، ومن الصعب تحقيقه عند معظم فنانات اليوم، اللواتي تظهرهن عمليات التجميل، كما لو أنهن نسخة واحدة متكررة.
لمع اسم “نورمان” بين الجمهور بسرعة قياسية، صارت نجمته المفضلة، لم يكن لديها صفحة على الفيس بوك ولا الانستغرام، لكن جمهورها الواقعي تجاوز الحدود، وصارت من نجمات العالم العربي في عالم التمثيل، راحت صورها تتردد على أغلفة أهم المجلات الفنية في الخارج، وكان إجراء حوار معها هو “سكوب” للوسيلة الإعلامية التي أجرته بغض النظر عن نوعها! رغم ندرة اللقاءات الإعلامية معها، فهي من طينة الفنانين الكبار، تظهر للجمهور عندما يكون لديها ما تقدمه له، بأدوار من الصعب على فنانة أخرى تأديتها، ويمكن استحضار دورين يعتبران وفق رأي شخصي من أهم ما قدمته في مسيرتها الفنية الغنية، “أم عادل” في فيلم “قمران وزيتونة” -2001- السيدة القروية البارعة الجمال، تلك التي حولها القدر المأساوي الذي اقعد زوجها الفراش شبه جثة، إلى أب وأم معا وفي ظروف تعاظمت فيها الخطوب، إذ بدأت تتحمل أعباء تربية طفليها، وتتحمل مسؤولية المنزل برمته، وتمارس دور الأب أيضاً، وتبرز أشكالاً غير مألوفة من القسوة المغلفة بنوع من الحب الأمومي الذي لا تستطع كبحه في أثناء حلاقة شعر ابنها الذي يمص إبهامه، وينتف شعر رأسه، كما تعاقب ابنتها بحلاقة رأسها أيضاً لأنها تواطأت مع أخيها، وسيبقى المشهد الأكثر بذخا في روعة الأداء، عندما كانت تسكب الماء عليها وشعرها ينسفح كليلٍ متوحش يريد أن يفلت من ربطة الرأس وقيود القهر النفسي والعاطفي، بعد أن قامت الحياة بدفن المرأة التي هي، وما من حل أمام هذه المعضلة الإنسانية والأخلاقية في آن إلا البكاء والمزيد من مكابدة قسوة الظروف، إنها مثال عن المرأة الريفية التي تفني حياتها بما ما للكلمة من معنى، كرمى عائلتها، أولادها وزوجها الذي قتلت الحرب جسده.
بعدها بـ 3 سنوات ستظهر “نورمان” في مسلسل “أحلام كبيرة”-2004-، الصحفية الجدية والمسؤولة أمام نفسها أولا وأمام المجتمع أيضا، ستقف كتفا إلى كتف مع المحامي للعمل على رفع الضيم عن العديد من النساء التي تسبب العنف الزوجي بمقتل إحداهن، إلا ان قلبها الذي سيدق للحب، لن يكون خفقانه إلا ناقوسا يدق معلنا قرب دنو أجلها، ولن ينسى الجمهور المشهد البليغ الأثر لوداعها الجنائزي، عندما قررت أن يحيا مولودها وتموت دون ذلك.
اختارت هذه الفنانة السورية الأصيلة الابتعاد عن الشهرة التي يلهث إليها الآخرون بملء إرادتها، وهي في القمة، فهي لن تكون في الحياة إلا على قدر الرسائل الاجتماعية الأهم التي قدمتها في أهم أعمالها الدرامية، عن المرأة الحرة، المثقفة، المسؤولة، المناضلة، وحدث أن تركت التمثيل لأجل أسرتها وأولادها، مضحية أيضا بما يصعب على الكثير من أهل الفن فعله لمشقته.
بطلة الجمباز، المحامية، والنجمة المتوقدة في عالم الفن، خسرناها كجمهور في زمن عزّ فيه النجوم الحقيقيون، وربحتها أسرتها، فطوبى لذاك القلب الوارف الظلال.
تمّام علي بركات