ثقافةصحيفة البعث

جدل مزهر حول المعلّقات وفنيّة الشعر العربي

 

 

أغلبنا سمع بالهجوم العنيف الذي تعرّض له عميد الأدب العربي د. “طه حسين” من حرّاس الماضي، الدّاعين لتقديسه دون مساءلة حين حاول إثارة النّقاش، وإقلاق ذهنيّة التكلّس العربيّة الغافية على حرير الأجوبة المطلقة الصّالحة لكلّ زمانٍ ومكان. مشكّكاً في الكثير من الموروث الأدبي والشّعري المتناقل عبر العصور، وبأنّه منحول ولا يخضع للقراءة والمعايير التاريخية العلميّة الصّحيحة. وهاهو الدكتور النّاقد “عبد الملك مرتاض” يثير بعض الزّوابع الخفيفة،أيضاً مستثمراً بعض ما قاله المشكّكون القدامى،لإعادة الألق لهذا الجدل المزهر، عبر طرح الأسئلة المقلقة التي لا بدّ منها قائلاً: لم يكن هناك شعر أدعى إلى أن يُتزيّد فيه، ويُدسّ عليه، كشعر المعلّقات التي جمعها أحد أوضعِ الرّواة للشعر، وأجرئهم على العبث به، وهو “حمّاد الراوية” بعد أن كان مضى على قِدم المعلّقات وجوداً ما يقرب من ثلاثة قرون. والآية على ذلك أنّنا لاحظنا أبياتاً إسلاميّة الألفاظ كثيرة وقليلة، في جملة المعلّقات مثل معلقات “زهير بن أبي سلمى، ولبيد بن أبي ربيعة”. فمثلاً، لقد زِيد على معلّقة “امرئ القيس” الملك، ابن الملك، الغني الموسر أبياتاً لا تتناسب وطبيعة حياته التي يفترض بداهةً أنّها رغيدة، كأن يوصف بالتّشرّد والصعلكة، ومعاشرة الذئاب ومخاطبته لها وجهاً لوجه، وحمل القِراب على الظهر. بينما يعزوها البعض لـ “تأبّط شرّاً” الذي تنطبق حياته على ماورد فيها. تقول الأبيات:

وقِربةِ أقوامٍ جعلتُ عصَابها        على كاهلٍ منّي ذلولٍ مرحّلِ

ووادٍ كجوف العِير، قفرٍ قطعتُه      به الذئبُ يعوي كالخليع المعيّلِ

فقلتُ له لمّا عوى إنّ شأننا          قليلُ الغنى إن كنتَ لمّا تموّلِ

كلانا إذا ما نال شيئاً أفاتَه          ومن يحترثْ حرثِي وحرثَكَ يهزلِ

أمّا حول فنيّة الشعر العربي الذي قال بعض المؤرخين بأنّها جاءت هكذا فجأةً بحلّتها البديعة، على يدِ “امرئ القيس” كما ذهب “الجاحظ” قائلاً: “أوّل من نهج سبيل الشعر العربي، وسهّل الطّريق، إليه: “امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة”. فهل حقّاً ولد الشعر راقياً، ناضجاً مكتمل البناء، محكم النسج، بديع السّبك على هذا النّحو دون مقدّمات؟. إنّ امرئَ القيس نفسه يصرّح بأنّه قد انتهج المقدّمة الطّللّية على منوال من سبقه كـ”ابن حمام” قائلاً:

عوجَا على الطّلل المُحيلِ لعلّنا       نبكي الديار كما بكى ابن حمام

وهنا يقول د. “نجيب محمد البهبيتي” مشكّكاً بما أورده الجاحظ:  بأنّ “النّمو الطبيعي للقصيدة العربية…يستدعي أن تكون مرّت، قبل زمن امرئ القيس، بأطوار كثيرة، وتعثّرت تعثّرات جمّة حتى اكتمل لها هذا الشكل الذي نجدها عليه في شعر امرئ القيس، ومن سبقه ومن جاء بعده”. بل هناك من قال بأنّ الشعر العربي قد كتِبَ، قبل امرئ القيس بقرون كثيرة قبل الإسلام، وهذا ما يوحي به قول “ابن هشام” حين نسب قصيدة ناضجة الفنيّة والاكتمال إلى “عمرو بن الحارث بن مضّاض الجرهميّ” وقد وجدت مكتوبة على حجر في أرض اليمن. وهذا الجرهمي عاشت قبيلته قبل قرن على الأقل من زمن النبي “إبراهيم” الذي قيل بأنّ زمنه كان في القرن التاسع عشر أو الثامن عشر، قبل الميلاد كما يقول د. “مرتاض”

تقول أبيات الجرهمي الذي حكمتْ قبيلته “مكّة” يوماً:

وقائلةٍ والدمع سكبٌ مبادرُ       وقد شرقتْ بالدمع منّا المحاجر

كأن لم يكن بين الحَجون إلى الصّفا      أنيسٌ ولم يسْمُرْ بمكّة سامرُ

بلى نحن كنّا أهلَهَا فأبادَنَا               صروفُ اللّيالي والجدودُ العواثرُ

لقد كثر الجدل حول المعلّقات، فهناك من قال بأنّها علّقت على جدار الكعبة كـ “ابن رشيق، بن عبد ربه، ابن خلدون وغيرهم..” ومصدرهم هو “حمّاد الراوية”. وهناك من قال أنّها كانت في مكتبات الملوك، كما يقول “البغدادي”: “حيث كان الملك إذا استُجِيدَتْ قصيدة يقول: علّقوا لنا هذه، لتكون في خزانته” أو أنّها علّقتْ في موسم الحجّ بعد أن أنشدها أصحابها في “سوق عكّاظ” ثمّ أزيلتْ بعد مضيّ الموسم. وهنا يقول “معاوية بن أبي سفيان” مؤكداً فكرة التّعليق: “قصيدة عمرو بن كلثوم، الحارث بن حلزة، من مفاخر العرب كانتا معلّقتين بالكعبة دهراً”. ولكن كيف تعلّق على جدار الكعبة المقدّسة ،بينما مضامينها تدور حول “المضاجعة، المباضعة، وسيقان النساء، وأثدائهن، وشعورهنّ وثغورهنّ” وهذا يذكّرنا بذاك النشيد الجمالي الإيروتيكي “عالي الفنيّة الموجود في العهد القديم والمنسوب للنّبي “سليمان” أي نشيد الإنشاد.

ختاماً، بعد كلّ ما سبق من إدانة لـ “حمّاد الراوية” الذي قِيل أنّه من الرّواة الكذبة. نجد أنّه أحقّ بالامتداح منه بالإدانة، لكونه السّبب بجمع المعلّقات ولفت الانتباه إليها، يقول “أبو جعفر النّحاس”: “لمّا رأى حمّاد الراوية المتوفى 155 للهجرة، ذهن الناس قد توانى عن حفظ الشعر، جمع هذه المعلّقات السّبع وحضّهم عليها، وقال لهم، هذه هي المشهورات”.

شكراً لكذبة التاريخ بهذا المعنى، لدورهم في استنهاض الروح المندثرة في الشعوب والأمم. وإضاءتهم لما توانى عن ذكره التاريخ الرسمي. وهو كثير. لتغور مياهه في دهاليز الماضي وثغوره.

أوس أحمد أسعد