“الدراما التاريخية السورية”: حلم نهاية القرن
كتاب “الدراما التاريخية السورية” تأليف “مازن بلال-نجيب نصير” الصادر بطبعته الأولى عام 1999، يُشكل إضافة جديدة وأساسا متينا للراغبين بدراسة من هذا النوع، وأيضا لمن يريد البناء عليها وتطويرها، كونه كتاب كثيف ومتخصص جدا بثلاث طبقات متعاقبة، فهو عن الدراما أولا، ثم يتخصص أكثر فيتناول التاريخية منها، مركزا فقط على الدراما المحلية، وذلك في بحث رشيق لا يزيد عن 91 صفحة من القطع المتوسط.
المؤلفان يستهلان البحث بثلاث حالات للدراما التلفزيونية المحلية التاريخية، الأولى هي:”دراما الحدث التاريخي” حيث يتم الاعتماد على الحالة التوثيقية في الشخصيات والأحداث، ويضاف إليها حالة درامية مؤلفة، مثل “أخوة التراب” الذي يعتمد على شخصية “جمال السفاح” التاريخية وإلى جانبها شخصيات خيالية؛ الحالة الثانية هي “دراما المناخ التاريخي”، والتي تتناول زمنا محددا دون التقيد بشخصيات موثقة، وتراعي الظروف بالدرجة الأولى، مثل “نهاية رجل شجاع”، أما الحالة الثالثة والتي تتفلت من الحالتين السابقتين، فهي “دراما التشكيل التاريخي”، وهي دون تحديد للزمن أو لحدث خاص، فيُعرض الزمن بشكل مطلق، محاولا تحرير الدراما من القيود التوثيقية، وقد اصطلح على تسميتها بـ” الفنتازيا”، مثل “الموت القادم إلى الشرق”؛ إن ما يجمع الحالات الثلاث السابقة، هي عدم وجود التاريخ بمعناه الاصطلاحي، فهناك فقط استخدام لبعض عناصره.
تأخر ظهور الدراما التاريخية يُعزى إلى فترة تأخر ظهور التلفزيون واكتمال مرحلته التجريبية حتى أواخر الستينيات، وتواضع مستوى الاستديوهات، إلى أن جاءت حقبة السبعينيات التي أخذ يكتمل فيها العمل الدرامي التاريخي المحلي، بملامح لا تخرج عن الحالات الثلاث السابقة، مثل مسلسل “أسعد الوراق” وذلك في تكريس مشهد عام للدراما، لا يُظهر انعكاس أزمة الثقافة الاجتماعية، مع محاولة لتجسيد أشكال التبدل الاجتماعي، فكان الظرف الموضوعي للتغيير هو المحور الذي يسير عليه الصراع، ومن تلك الأعمال “دولاب” و”ملكوت البسطاء”، مع ظهور مفرط لاتجاه “الواقعية الاشتراكية” تصل أحيانا إلى مرحلة الشعار السياسي كمقولة.
فترة الثمانينات وفق ما يذهب إليه الكاتبان في مؤلفهما السابق الذكر، هي النقطة المفصلية في انتقال الدراما المحلية إلى جغرافية ثقافية جديدة، ومن أمثلة ذلك “الزيناتي خليفة” لـ “هاني الروماني”، ورحلة “جابر وجبير” لـ “علاء الدين كوكش”.
إن ما يميز الصراع الدرامي في الثمانينات هو استخدام الزمن كعنصر درامي، وهذا ما أدخل الكتاب في تجربة روائية محسومة النتائج، يظهر فيها الصراع كحدث طارئ، لا يترتب عليه في بعض الأحيان أية نتيجة، لأن المساحة الثقافية التي بُنيت عليها الدراما تنتمي إلى زمن “سكوني”، خصوصا عندما بدأت تجسد “السير الشعبية”، فيمكن إذا النظر إلى دراما الثمانينيات التاريخية وفق ملمحين، الأول: هو تهميش الصراع الذي يدخل كحدث يُعكر صفو الحياة ثم ينجلي كغيمة عابرة دون أثر جوهري، مثل “دليلة والزيبق”، أما الثاني فهو: عبثية ذلك الصراع، فالأحداث العنيفة عندما لا تحمل تأثيرا على حياة الأفراد والمجتمع، فإنها تؤكد على عبثيتها ولا جدواها مثلما يحدث في “جابر وجبير”، فعندما يتمرد “جابر” الابن الأكبر لزعيم القبيلة على والده، ويجمع حوله فئة تنمو وتصارع وتحقق انتصارات، ينتهي إلى حالة من الشك وفقدان الثقة، فيتهم الزوجة بخيانته مع “جبير” ويصبح صراعه ضمن دائرة مغلقة، الأمر الذي ينطبق على نسخة لاحقة تدعى “الجوارح”، ولكنها تجيء وفق ما اصطلح على تسميته بـ: “الفانتازيا”.
أما عن علاقة الدراما بالرؤية الثقافية للماضي، فقد وقعت في مطب القراءة “السلفية” للتاريخ، وذلك بأن تجده قادرا على إنتاج نفسه باستمرار، بغض النظر عن أي ظرف موضوعي أو ذاتي، فنجد أنفسنا في “غضب الصحراء” و”البركان” أمام انتقال المعرفة التراثية نحو الدراما بشكل مباشر، ويمكن إيضاح هذه العملية وتأثيرها في البناء الدرامي وفق ظاهرتين، إما: تقديم تقنيات مرئية جديدة، ساهمت بنجاح في مزج المفاهيم العصرية بزمن ضائع، إذ يتواكب في “غضب الصحراء” مثلا مفهوم السلطة مع العدالة الاجتماعية، أو: السعي للترميز إلى القضايا المعاصرة بافتراض زمن تاريخي، مثلما يحدث في “الموت القادم إلى الشرق” و”الكواسر” والجوارح”، فالتشكيل “القبلي” ليس غاية بحد ذاته، رغم أنه أدخل الدراما في صراع يقوم على التناقض بين طبيعة الحياة وبين الحركة التي تحتاجها الدراما؛ البحث الرصين للكاتبين يطرح هنا سؤالا مهما: لماذا يسعى كُتّاب الأعمال السالفة الذكر للترميز عن الحياة المعاصرة؟ رغم أن أي حدث معاصر نعيشه يمتلك قدرة درامية هائلة، ابتداء من المسالة الفلسطينية وصولا إلى ما آلت إليه القضايا الاجتماعية في حياتنا، الجواب الأسهل على هكذا سؤال، يطرح فورا العلاقة مع الرقابة التي اضطرت الكاتب للذهاب إلى العمل التاريخي، وهذا الأمر كان له عواقبه الوخيمة على سوية تلك الأعمال، لأنه قدم حلولا سهلة داخل الثقافة السائدة، وجعل من يصنعها يظن أنه وبمجرد أن نجح بالإسقاط التاريخي على الزمن الحاضر فالعمل جيد إذا!
دراما التسعينيات تميزت بأنها تحاول السيطرة على الحاضر عبر ثقافة الماضي، فظهر مع نهاية الثمانينات “هجرة القلوب إلى القلوب” في تطور تقني لم يغير من السمات العامة السائدة، لكنه تأثر بمجموعة عناصر، كان لها دورها في أمرين اثنين، الأول: هو الانتشار الواسع للدراما التاريخية السورية ضمن الفضائيات العربية، والثاني: تجذر الهوية التراثية في تفاصيل الصراع الدرامي وطريقة رسم الشخصيات.