كورونا لا يقل خطرا عن فيروسات سبقته وترافقه..!
قرار السلطات الرسمية القاضي بالمكوث في المنازل لفترة معينة، بغية الحد من انتشار فيروس كورونا والتخفيف من مخاطره، قرار لا مفر منه، في ضوء مجمل الحيثيات الصحية المحلية والدولية التي تحيط بوقائع هذا الفيروس، ولا يغيب عن بال الجميع ما سيترتب على هذا المكوث من خفض لا يستهان به في الإنتاج اليومي الذي كان معتادا لدى عدد كبير من الأفراد والأسر والمنشآت، وفي جميع القطاعات مع اختلاف نسب وحجم الانخفاض. وسينجم عن ذلك إلحاق الضرر بالكثيرين نتيجة انخفاض دخلهم اليومي، لاسيما أولئك الذين يعتمدون بإنفاقهم على دخلهم اليومي، خاصة وأنه قد تضخم حجم هذه الشريحة، نتيجة الغلاء الكبير المستمر والمتصاعد في السنوات الأخيرة، وسينعكس ذلك على المستوى الاقتصادي الوطني، ما يوجب توجه الجهات المعنية الرسمية والمنظماتية والأهلية، للوقوف إلى جانب الشريحة الأكثر تضررا، والتطلع إلى الحد من مخاطر ما ستؤول إليه الحالة الوطنية العامة التي تعني الجميع حاضرا ومستقبلا.
مشكورة وزارة الصحة على جهودها الكبيرة في متابعة الشأن الصحي العام للمواطنين، وتحديدا فيما يخص المراقبة الذكية والواعية لفيروس الكورونا الذي يعنيها بالدرجة الأولى، والأمل كبير بأن تفلح جهودها، ولكن حبذا ألا يغيب عن البال أن فيروسات عديدة وخطيرة كثيرة ذات طابع اجتماعي واقتصادي وتربوي وثقافي.. سبقت وترافق هذا الفيروس، ونعاني منها منذ سنوات، ولا تقل خطورة عن فيروس كورونا، ومكافحتها تقع على عاتق الوزارات المعنية بها، فوزارة التربية تعاني من فيروس الدروس الخصوصية المتغلغل في مدننا وأريافنا منذ عقود، دون أن يحظى بأية مكافحة فعالة، وبعض كبار المسؤولين في الوزارة يقولون أنها ظاهرة فرضت نفسها، عدا عن فيروس المديرية العامة للمناهج المدرسية الذي فرض تغييرا متتابعا للكتب المدرسية، ما كلف الدولة المليارات خلال الأعوام الماضية، وفرض الحاجة إلى وجود كتاب رديف (محاليل من نتاج التربويين أنفسهم) إلى جانب كل كتاب مدرسي، وتوقف المدارس عن التعليم لم يترافق بتوجيه الوزارة كوادرها التعليمية من كافة الاختصاصات لإعطاء طلابهم المجاورين لهم دروسا خصوصية مجانا خلال فترة إغلاق المدارس، بالتوازي مع استمرار نشاط مدرسي الدروس الخصوصية المنزلية المرتفعة الأجور، ووزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، تغض النظر منذ سنوات عن الفيروس المتسبب بنقص وزن ربطة الخبز وارتفاع سعرها، والذي تكرس في هذه الأيام نتيجة إجراءات غير مدروسة، فالخبز الذي انتشر لدى المعتمدين لم تف كمياته ولم ينضبط سعره ووزنه، وحتى الآن لم تفلح الوزارة في ضبط مكاييل محطات الوقود، ولا الحد من الازدحام على مراكز “السورية للتجارة” لتوزيع المواد المقننة عبر البطاقة الذكية، فالتوسع المنشود في مراكزها لم يرق عدده الضئيل جدا إلى حجم وعودها الكبيرة، وكذا الحال بخصوص سياراتها الموعود وصولها إلى الأحياء والقرى، والمعدودة على الأصابع.
ووزارة الصناعة لازالت تتجاهل بشكل شبه كلي تلك الفيروسات التي عبثت بالعديد من شركاتها الإنتاجية المتعثرة أو المتوقفة منذ سنوات، والتي لاتزال تنتظر الإصلاح الموعود دون أن يترافق ذلك بالقليل المتوخى من الجهود. ولا يغيب عن البال تعثر نشاط برامج وزارة التنمية الإدارية، وقد تكون أحوج للبدء بنفسها، ووزارة الزراعة تشكو من ضعف إنتاجية – وربما خسارة – معظم المشاريع الإنتاجية الزراعية والحيوانية التي تملكها، وآلاف الهكتارات العائدة للقطاع الخاص بائرة لأكثر من سبب وسيتكرس ذلك إثر الارتفاع الكبير لأسعار السماد، ما يتناقض مع شعارها المرفوع “زراعة كل شبر أرض”، وبدلا من أن تعلن وزارة الزراعة عن قدرتها على تصدير عشرات آلاف الأطنان من هذا المحصول أو ذاك، ها هي بواخر استيراد العديد من المواد الغذائية متتابعة، وعلى رأسها القمح، وسعر كيلو البطاطا تجاوز الخمسمائة ليرة سورية، ما يقارب عشرة أمثال سعرها في موسم إنتاجها محليا، وقريبا ستصل الباخرة التي تحمل 5000 طن من البطاطا المصرية، حسب ما صدر عن وزارة التجارة الداخلية، وجميعنا نعلم معاناة مزارعي البطاطا عند حصاد موسمهم، إذ كثيرا ما كان سعر البيع أقل من سعر الكلفة.
ولا زالت شاشات وزارة الإعلام مفتوحة أمام فيروسات المسلسلات المكررة والبرامج الإلهائية على شاشاتها، على حساب ندرة البرامج الاقتصادية والفكرية والعلمية الواجبة التكثيف. والسؤال المشروع: لماذا لم تكثف نشاط شاشاتها خلال السنوات المنصرمة لمكافحة عشرات الفيروسات التي تشكو منها أغلب الوزارات، على غرار تكثيف نشاطها المشكور حاليا إلى جانب وزارة الصحة، بخصوص الوقاية من فيروس كورونا، سواء ما تعلق باللقاءات مع المواطنين أو المسؤولين، أو تصنيع الكمامة أو الحض على المكوث في البيت، أو تصوير الشوارع، ولكن هذا النشاط لم يترافق مع أية إرشادات فردية أو أسرية أو منشآتية باتجاه البحث عن حالات إنتاج لازمة وواجبة بما يتلاءم مع وقائع أجواء المكوث المطلوب، والذي قد تطول فترته، وأيضا تخلو الشاشة من أية إرشادات باتجاه توجيه الاستهلاك وتقنينه، وهي الإرشادات المفترض اعتمادها منذ سنوات، نتيجة انخفاض الدخل، وخاصة أن ذلك ممكن وواجب إلى درجة ما.
لا جدال في أهمية الجهود الكبيرة للحد من خطورة انتشار فيروس كورونا، على أن يترافق ذلك بالحد من مخاطر ضعف الإنتاج، واغتنام الفرصة لتكريس ثقافة ترشيد الاستهلاك. والأمل كبير بقدرتنا على تجاوز خطورته، لكن الحاجة ماسة للحد من نشاط جميع الفيروسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومن لا يرى من الغربال فالأّعمى خير منه!!
عبد اللطيف عباس شعبان/ عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية