اقتصادصحيفة البعث

مدعوٌ للسير مع نظيره “العام” لضبط المعادلة التنموية تعويـــل حكومـــي يضـــع القطـــاع الخـــاص علـــى محـــك الاضطـــلاع بمســـؤولياته الاســـتثمارية

لم تخفِ الحكومة تعويلها ورغبتها على القطاع الخاص لجهة اضطلاعه بالمسؤولية الاستثمارية، وآخر ما ورد في هذا السياق ما عرضه وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية الدكتور محمد سامر الخليل خلال اجتماع نوعي حول برنامج العمل لسياسة إحلال بدائل المستوردات والبدء بتصنيع 27 مادة، مشيراً إلى أن الحكومة لن تتولى مهمة الاستثمار المباشر في هذه الصناعات، وأن الأمر سيترك برمته للقطاع الخاص.

أكثر دراية

لاشك أن تعويل الحكومة على القطاع الخاص في هذه المرحلة يصب في الاتجاه الصحيح، لاعتبارات تتعلق بالدرجة الأولى بأن من بقي من رجال أعمالنا خلال سنوات الأزمة هم الأجدر بفرص الإعمار، ولأن هؤلاء باتوا أكثر دراية بالحيثيات الاستثنائية لاقتصادنا الوطني وما انتابه من انتكاسات جراء تداعيات أزمة غير مسبوقة، حرّفت الكثير من مساراته، فهم بالنتيجة يدركون كيفية التعامل مع هذه المعطيات الجديدة، وإمكانية الالتفاف عليها لتأمين موارد مالية ولوجستية، وفتح منافذ تجارية في كثير من دول العالم، من خلال علاقاتهم مع نظرائهم في تلك الدول.

مقومات

كما أن مرد هذا التعويل يعود لاعتبارات ومقومات يتمتع بها القطاع الخاص، منها ما ورد في تقرير السياسة الوطنية للعلوم والتقانة والابتكار على سبيل المثال لا الحصر بأن الاستثمار الزراعي يتركز ضمن خانة القطاع الخاص، موضحاً أن نسبته 98.5% من إجمالي الإنتاج، مقابل 1% للقطاع المشترك و0.5% للقطاع العام، ولنا أن تصور إمكانية العائد الاقتصادي لهذا الاستثمار فيما لو تم العمل على مأسسته بالشكل المطلوب، وفي مجال الصناعة يختلف الواقع التقاني بين القطاعين العام والخاص، حيث تبدو التقانات في القطاع العام متقادمة –وفقاً للتقرير- على الرغم من بعض التحديثات التي طرأت عليها في السنين العشر الأولى من هذا القرن في فرعي النسيج والهندسية، إذ تعتمد التقانات الحالية في القطاع العام بشكل رئيس على كثافة اليد العاملة، أما تقانات القطاع الخاص، وخاصة في الشركات فلديها تقانات حديثة مؤتمتة لا تعتمد بشكل كبير على المهارات الخاصة واليد العاملة المدربة، وإنما على اليد العاملة الأكثر تعليماً، إضافة إلى دور القطاع الخاص في قطاعات أخرى كالمصارف والتأمين وغيرها.

وحدة متكاملة

وسبق لنا الإشارة إلى أنه لا يمكن لأي اقتصاد وطني أن يمتّن أواصره، ويحقق أعلى معدلات نموه دون أن يتضافر جهد كلّ من قطاعيه العام والخاص في وحدة متكاملة لا يطغى فيها أو يتعدّى أحدهما على الآخر، ونعتقد أن لدى الحكومة بتوجهها السليم نحو هذا القطاع رؤية ترنو عبرها السير بتناغم وانسجام مع رجال الأعمال بما يحقق المصلحة العامة، لكن تحقيق هذه الرؤية يقتضي من الحكومة التخطيط الاستراتيجي لتحديد مسار قطاعنا الخاص والإشراف عليه وضبط حركته ونشاطه الاستثماري والتجاري، حتى لا يخرج عن القوانين والأنظمة النافذة، ولا يقع -في الوقت ذاته- في مطبّ الطفل المدلّل ليتحوّل تدريجياً إلى طفيلي جبان، فبذلك يكون عمل كلا القطاعين متوازناً بموجب معادلة تخوّل كل قطاع القيام بدوره المنوط به.

وعلى اعتبار أن هذه المعادلة كانت تفتقد في السابق توازنها واستقرار كفتي ميزانها المتأرجحتين يميناً ويساراً، دون الأخذ بالاعتبار ما سيحققه كل طرف، فعلى طرفيها وخصوصاً الحكومة، الاستفادة من أخطاء الماضي، واستدراك التجاوزات التي حصلت أيام الرخاء، وما آلت إليه من احتكارات هنا، وصفقات مشبوهة هناك حسبما أكده بعض العارفين بخفايا الأمور، فالخاص مدعوّ اليوم إلى المساهمة مع نظيره العام لتحقيق التوازن في هذه المعادلة، وانتزاع نفسه صفة (الجُبن) منه، ومطالب بألاَّ يتموضع في خانة (المتطفّل)، وإنما في موقع المسؤولية والتشاركية، حتى تكون له بصمة  في عملية رفع مستوى اقتصادنا الوطني، وخاصة إذا ما اتجه نحو الاقتصاد الفعلي المنتج وعلى رأسه الصناعة، والفرصة الآن مواتية أمامه لإنشاء مثل هذه المشاريع الإنتاجية، لا أن يقتصر نشاطه على التجارة والخدمات، فالبلد أحوج ما يكون إلى رجال أعمال همّهم الأول النهوض بواقع قطاعنا الصناعي.

مطلب

وفي غمرة الحديث عن دور القطاع الخاص كحامل أساسي للتنمية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي خاصة في هذه المرحلة بالذات وما تتطلبه من إحداث مشاريع استثمارية على المستويات كافة، يفرض التمويل نفسه كمطلب لابد منه لإنعاش المشهد الاستثماري ضمن صيغ متعددة توجب على القطاع الخاص تلقف إحداها، يتصدرها التقليدي المتمثل بدور المصارف، ومنحها تسهيلات ائتمانية تنشط الدورة الاستثمارية، وهناك الكثير من المستثمرين الذين يعولون على هذا الأمر خاصة أن وزير المالية أكد أكثر من مرة على وجود 1500 مليار ليرة جاهزة للإقراض، لكن واقع الحال يظهر أن ثمة تحديات تعثر انسياب هذه الكتلة بالأقنية الاستثمارية لاعتبارات ربما تتعلق بالضمانات المطلوبة وبعض الأمور اللوجستية التي تحفظ حق المصارف ولاسيما أن ملف القروض المتعثرة لا يزال ساخناً، ما قد يضعه أمام خيارين؛ الأول اعتماد الشركات المساهمة العامة كحل استراتيجي لتأمين التمويل خاصة للمشروعات الكبيرة ذات البعد الاستراتيجي، وهنا يكمن الرهان على القطاع الخاص سواء لجهة تحول الشركات العائلية القائمة حالياً إلى مساهمة عامة تطرح أسهمها للاكتتاب العام، أم لجهة تأسيس شركات جديدة من خلال التوافق بين أصحاب رؤوس الأموال الكبرى للخوض بهذا المضمار الاستراتيجي الكفيل بإنتاج شركات كبرى خاصة الصناعية منها..!

ويكمن الخيار الثاني باعتماد التشاركية بين القطاع الخاص والحكومة للنهوض بالمشاريع والاستثمارات الحكومية الخاسرة نتيجة ما يكتنف هذه المشاريع من روتين وبيروقراطية أفضيا عن ترهل واضح من جهة، والمبالغة باحتضان العمالة من منطلق ما مسؤولية الدولة الاجتماعية من جهة ثانية..!

من الآخر

على اعتبار أننا على أبواب مرحلة عنوانها الرئيس (الإعمار والبناء)، فعلى القطاع الخاص أن يعيد النظر بحساباته وخاصة من جهة ضرورة اضطلاعه بمسؤولياته التنموية الاقتصادية والاجتماعية، آخذاً بعين الاعتبار أن الحكومة منحته الكثير من الامتيازات والإعفاءات أوقات الاستقرار والرخاء، وكذلك في الأزمة، وبالتالي من حق اقتصاده الوطني عليه أن يكون أكثر فعالية ونشاطاً في المرحلة المقبلة من خلال استثمار صيغ التمويل المومأ إليها آنفاً، وعبر تكثيف جهوده وتوظيفها في مسارات تنموية حقيقية.

حسن النابلسي