أندريه بريتون.. مؤسس السوريالية
السوريالية– كما تخيّلها بريتون ورفاقه من الموقعّين الأوائل على البيانات السوريالية، إنما هي ثورة مسؤولة تنطلق من تمرد على الأوضاع القائمة – بدءاً بأوضاع الفن الصالوني والأدب المنّمق وصولاً إلى الأوضاع السياسية– إلى النظرة إلى العالم، ومن فلسفة ذات وضوح إلى رؤيةٍ لمستقبل البشرية وبعيدة عن رؤى التشاؤم والعدم، فعندما بدأ أندريه بريتون ببّث الأفكار السوريالية، كان من الواضح أنه ليس مجرد ناقد أدبي أو فني، بل يسعى لرصد ظواهر فنية قائمة، إنه صاحب ثورة فكرية جمالية، ثورة تواكب الثورات السياسية التي كانت تعد بالكثير في العشرينات والثلاثينات، حيث كان الغضب العام والرغبات في تغيير العالم. فالبعد الذي اتخذته السوريالية، ربما يكون واحدا من الأشكال الأساسية التي تعزّز فكرة ارتباط الفكر بالفن.
وُلد أندرية بريتون عام 1896 ورحل عام 1966 عن عمر يناهز السبعين عاماً، وقد اختلط اسمه باسم الحركة التي أسسّها التي كان منظّرها الأول والمدافع الأكبر عنها، وقد درس الطب في البداية وأتاح له ذلك أن يطلع على كشوفات فرويد فيما يخص التحليل النفسي.
ابتدأ بريتون حياته الأدبية بكتابة بعض المقالات الأدبية المتأثرة بالشاعر مالارميه ثم بالشاعر أبولونير. وبعدئذ أسسّ مع بعض أصدقائه مجلة تدعى” “الأدب” ثم انضم إلى الحركة الدادائية، لكن ما لبث أن انفصل بريتون عنها وأسسّ حركته الخاصة به تحت اسم “السوريالية” وهناك علاقة تواصلية وحميمية واضحة بين الحركتين الدادائية والسوريالية فكلتاهما تركزان على رفض المجتمع، والحضارة، والعقل الواعي، والتقاليد اللامثالية في الكتابة أو في الحياة، فالموقف السوريالي ناتج جزئياً عن رفض هذه الحضارة بكل قيمها، إنها رفض للحياة القمعية اللامثالية التي تسجن الفرد داخل أقفاصها وتكاد، تخنقه خنقاً، وهذا الرفض وصل لدى الحركة الدادائية التي سبقتها إلى حد العدمية الكاملة وعدم الإيمان بأي شيء بعد كل ما حصل، إلا أن بريتون لم يكن عدمياً ولم يصل إلى هذا الحد فترك الحركة الدادائية.
ولما كان بريتون يتمتع بجاذبية شخصية ومغناطيسية لا تقاوم تحلّقوا حوله واعتبروه زعيماً لهم، وقالوا بأنهم يريدون التوصل إلى معرفة جديدة قائمة على الحلم والتداعيات الحرة، وكل ما هو عجيب مدهش أو ساحر خلاب في هذا العالم المليء بالدهشة. بمعنى آخر، كل ما ترفضه العقلية المنطقية أو العلمية السائدة في الغرب راحوا يتعلقون به، فهذه العقلية المنطقية لم تؤدِ إلى منبر الحرب والمجازر، فلماذا يتعلقون بها إذن؟ لماذا لا يحاولون التعرف على عالم يقف فوق الواقع، وفيما وراء الواقع؟ وهكذا ولدت الحركة السوريالية التي كان لها انتشار واسع لاحقاً ليس فقط في فرنسا، وإنما في جميع أنحاء العالم أيضاً.
وهكذا وبالرغم من مرور نحو نصف قرن على وفاة أندريه بريتون ما زال مؤسس الحركة السوريالية يثير الحماسة والجدل في الأوساط الشعرية والفنية من خلال كتاباته وأفكاره ومواقفه التي لم تفقد شيئاً من حيويتها وطابعها الراهن، وهذا ما دفع الباحث الفرنسي هنري بيير إلى وضع قاموس حول هذا العملاق فيما يخص كل انجازاته ونشاطاته، وبالتالي تسهيل فرصة العبور إلى عالمه المثير. ويظهر بريتون بثقافته الواسعة وسعيه إلى الحفاظ على الإرث الأدبي الماضي، وبموهبته الفريدة كناقد فني ابتكر مفاهيم لا يمكن تجاوزها في الميدان الجمالي، وبتنوع معارفه إلى حد يمكن فيه إدراجه من دون مبالغة في خانة المعلمين الكبار.
إبراهيم أحمد