البعث في ذكرى تأسيسه
د. خلف المفتاح
حمل فكر البعث وأدبياته مشروعاً قومياً نهضوياً عبّر عن آمال الملايين من العرب، وبشكل أساسي تحقيق الوحدة العربية التي شكّلت الحلم الذي دغدغ مشاعرهم لعشرات، إن لم نقل مئات، السنين، لأنها سفينة النجاة التي تخرج الأمة من الشتات والانقسام والضعف والتبعية، وتعيد لها حضورها في المشهد العالمي، علماً وثقافة وتقانة وقوة وكلمة مسموعة، ناهيك عن كونها الأساس لنهضة اقتصادية واجتماعية وتنموية تنعكس على مجمل أبناء الأمة، الذين عانوا لمئات السنين من الفقر والجهل والتخلّف والضياع بحكم أشكال الاستعمار والاستبداد والتسلّط والتجهيل الذي مورس عليهم داخلاً وخارجاً.
لقد شكّل تأسيس البعث نقطة تحوّل فكري أساسي في المشهد السياسي العربي، لأنه جاء بصياغة واضحة ومحدّدة لأهدافه المتمثّلة في الوحدة العربية والحرية والاشتراكية، عبر دستور تضمّن الثابت والمتحوّل من الأهداف، واضعاً رؤية ومبادئ تشمل كافة مناحي الحياة السياسية والديمقراطية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية، مع توصيف للحالة العربية وإبراز للهوية القومية بوجهها الحضاري القائم على البنية الثقافية لها لا العرقية أو الشوفينية المتعصبة، فجاءت أفكار البعث عابرة لكل أشكال الهويات والانتماءات والخرائط الجزئية والضيقة، وهو ما يفسّر انخراط وانضمام عشرات الآلاف لصفوفه من كل أبناء الأمة العربية بعيداً عن أي انتماء عرقي أو اثني أو ديني أو جهوي، فشكّل المظلة الهوياتية والفكرية للجميع، وهو ما تفرّد به البعث عن كل الأحزاب التي شهدتها المنطقة العربية منذ فجر الاستقلال حتى اليوم، فهو فلسفة عابرة لكل الحدود.
وبفضل حيوية وجماهيرية أهدافه وتعبيرها عن آمال القطاعات الواسعة على امتداد الساحة القومية كان للبعث تنظيمات في معظم الأقطار العربية، إن لم نقل كلها، وتمكّن بفضل قواعده الواسعة أن يصل للحكم أو يشارك فيه في العديد منها، إضافة لكونه اكتسب حيزاً طبقياً واسعاً تجاوز بشكل كبير القاعدة التنظيمية ولوائح المنتسبين إليه، فما يميز البعث أن قاعدته الطبقية أوسع بكثير من قاعدته التنظيمية، فهو بحق وحقيقة حزب الجماهير الكادحة، من عمال وفلاحين وصغار كسبة ومثقفين ثوريين وجنود وغيرهم من شرائح المجتمع، حيث قدّم نفسه حين وصل للحكم على أنه خادم ومعبّر عن مصالح تلك الطبقات والمتمثّل لمصالحها ورغباتها وطموحاتها العريضة، واستطاع تحقيق انجازات كبيرة على مستوى بناء الدولة والمجتمع، على الرغم من أنه لم يستطع تحقيق هدفه الكبير والعريض، ألا وهو هدف الوحدة العربية الشاملة.
عدم تحقيق هدف الوحدة له العديد من الأسباب الموضوعية والذاتية، منها أن أغلب الأنظمة العربية ليست نتاج عملية ديمقراطية وانتخاب حر ديمقراطي يفضي إلى سلطة تعبّر عن مصالح أبناء الأمة وتعمل على تحقيقها، بقدر ما هي أنظمة تابعة مستلبة الإرادة هدفها الأساسي البقاء في الحكم والتمتع بامتيازاته، والاعتماد على عنصر القوة للاستمرار، أو الارتهان لقوى الخارج للاستمرار في السلطة، حتى لو كان ذلك على حساب السيادة الوطنية والقرار المستقل، بل ومصادرته لصالح قوى الخارج، وغياب الإرادة السياسية الوطنية الحقة إلى درجة أن بعض الأنظمة العربية تآمرت على كل التجارب الوحدوية التي تحققت، وبالتنسيق مع قوى خارجية ناصبت فكرة العروبة والفكرة القومية عداء واضحاً، وإلى جانب ذلك فقد اعتمد الطرح الوحدوي على مستوى النخب السياسية، ولم يتحوّل إلى تيار شعبي منظّم يدفع بهذا الاتجاه، واختصر في الحماس للفكرة دونما وضع آليات عملية وخطوات تراكمية توصل لذلك الهدف بشكل مُتمرحل، كما في تجربة الاتحاد الاوربي، ولعله من الأسباب أيضاً الخلافات الأيديولوجية بين الأنظمة العربية، وعدم فك الارتباط بين فكرة الوحدة والفلسفة السياسية للحكم القائم في كل بلد عربي.
وبالتأكيد أحد أهم أسباب ما واجهته وتواجهه سورية من مؤامرات هو أنها حاملة الفكر القومي الحضاري، وهو عنوان أساسي في فلسفة البعث ومبادئه الأساسية، بدليل أنها كانت طرفاً في كل أشكال وتجارب الوحدة المفتوحة التي شهدتها الدول العربية، من وحدة 1958 مع مصر، إلى ميثاق نيسان عام 1963 بين سورية ومصر والعراق، وصولاً لاتحاد الجمهوريات العربية عام 1971، إلى مشروع الوحدة مع الأردن عام 1975، وميثاق العمل القومي مع العراق، وانتهاء بإعلان قيام جبهة الصمود والتصدي لكامب ديفيد والنهج الاستسلامي عام 1980.
أخطر ما يوجه الدولة الوطنية العربية والفكر القومي والعروبة بشكل عام في هذه المرحلة من التاريخ هو الهجوم على فكرة العروبة ومحاولة تسفيهها وإنكارها، واستدعاء الهويات والخرائط الضيّقة من طائفية ومذهبية وعرقية وجهوية وغيرها، عبر فرية تاريخية غير مسبوقة، يغذيها ويسوّق لها شعوبيون جدد، هم في حقيقتهم وأكثريتهم صدى لقوى خارجية سعت وتسعى تاريخياً للهيمنة على الأمة العربية واقتسام أو تقاسم جغرافيتها، وضرب ثقافتها القومية الحضارية، التي استوعبت كل أشكال التنوع العرقي والديني والثقافي، دون أن تلغيه أو تحل محله، ما أكسبها سمة العروبة الحضارية والثقافية. وإذا كان الحديث عن دولة وطنية فهذا لا يتعارض مع حقيقة انتماء الجزء إلى الكل، دونما إلغاء للخصوصية في إطار الهوية الجامعة، ولعل المثال الأوروبي هو الأقرب إلى ذلك، علماً أن الفارق اللغوي في الأنموذج المشار إليه واضح تماماً، وهو قائم على العامل الاقتصادي، في حين أن العاملين الاقتصادي واللغوي هما حاضران في الحالة العربية، إلى جانب عوامل أخرى كثيرة، منها المصالح المشتركة.
لقد أثبتت الوقائع، خاصة بعد الموجة الإرهابية المتطرّفة التي اجتاحت المنطقة، أن أية محاولة لضرب فكرة الانتماء للعروبة في أي بلد عربي لن يكون بديلها هوية وطنية أصيلة بقدر ما يكون استدعاء وحلول للهوية الطائفية أو العرقية، ويقدّم العراق أنموذجاً لذلك في الوقت الراهن، فغياب أو تغييب الخطاب العروبي أبرز الهوية أو الانتماء الطائفي والمذهبي والعرقي، وهذا يطرح اشكالية معقّدة حول مسألتي الهوية والمواطنة، والولاء والانتماء، سيما وأن ما يميّز شعوب المنطقة هو تعدّد الانتماءات والهويات الفرعية، رافقه اهمال في تكريس الهوية الوطنية والتأسيس لها منذ ولادة الدولة الوطنية العربية بعد سقوط الامبراطورية العثمانية، ووقوع أغلب الدول العربية تحت سيطرة الاستعمار الحديث منذ مطلع القرن التاسع عشر.
إن التيار القومي العربي والقوى القومية، وفي مقدمتها حزب البعث، تواجه تحديات حقيقية، بل وجودية، في إطار العمل على إعادة الروح للفكرة القومية بصيغ وأساليب جديدة تواكب التطوّرات الحاصلة في العالم، وتستفيد من التجارب، بما فيها تجاربنا السابقة بصيغها المختلفة، ودونما استفزاز أو اقصاء لأي مكوّن من مكوّنات البنية الوطنية، على قاعدة المواطنة واحترام الاختلاف والخصوصيات، وعلى قاعدة دولة القانون وسيادة الوطن والمواطن، وأن القوة في التنوّع وليس بالاستئثار والإلغاء.