خمسة خيارات للسياسة الأوروبية في سورية
د. إبراهيم علوش
تحت عنوان “خيارات الاتحاد الأوروبي في التعامل مع نظام الأسد”، نشر مركز أبحاث هولندا للعلاقات الدولية Clingendael ورقةً في نهاية الشهر الفائت، هي حصيلة ورشة عمل عقدها المركز تمهيداً لـ”مؤتمر بروكسل الرابع لدعم مستقبل سورية والمنطقة”، الذي يفترض أن يلتئم برعاية الاتحاد الأوروبي في التاسع والعشرين والثلاثين من شهر حزيران/ يونيو هذا العام، وهو مؤتمر سنوي يعول فيه الأوروبيون على دور “المنظمات غير الحكومية” السورية والإقليمية والدولية، إذ تم حشد 400 منها في مؤتمر بروكسل الثالث العام الفائت، وهو ما ينسجم مع استراتيجية خلق بديل سياسي “غير حكومي” في سورية يمكن للاتحاد الأوروبي أن يمارس تأثيره عبره، كما سنرى تالياً.
وعلى الرغم من أن الورقة مكتوبة بلغة تردد ببغائياً الخطاب المعادي لسورية بشكله الممجوج (“ثورة”، “براميل متفجرة”، “منظومة أمنية”، “كيماوي”، “ميليشيات النظام”، إلخ..)، فإنها لا توارب منذ البداية في التأكيد على أن السياسة الأوروبية المتبعة مع سورية حالياً هي سياسة فاشلة لن تصل إلى نتيجة، وهي سياسة قامت حتى الآن على المزاوجة بين عصا العقوبات وجزرة تمويل إعادة الإعمار والاعتراف الدبلوماسي لدفع سورية لتغيير نظامها وإحداث “تحول سياسي حقيقي” بناء على قرار مجلس الأمن 2254، وهو ما وصلت ورشة العمل إلى أنه مسعىً فاشلٌ، وأن “النظام السوري باقٍ” (ص. 2)، وبالتالي على الاتحاد الأوروبي أن يدرس خياراته في التعامل معه ومع الآثار السلبية للحرب على سورية على هذا الأساس.
من الملفت، عند الحديث عن إمكانية توظيف علاقات الاتحاد الأوروبي مع إيران وروسيا لإحداث التغيير السياسي المطلوب أوروبياً في سورية، بعد الإشارة لتعقيدات العلاقات الأوروبية مع إيران وروسيا خارج السياق السوري، أن كتاب الورقة يصرحون أن كليهما لا يتحكم بالقرار السياسي للدولة السورية، وأترجم حرفياً: “لا روسيا ولا إيران لديهما بالضرورة نفوذٌ ذو أهمية على النظام ذاته، إذ بينما يتمتع كلا البلدين بوزنٍ معتبرٍ على الأرض من ناحية قدراتهما القسرية (العسكرية)، وشركاتهما، وتأثيرهما الدبلوماسي، فإنهما ليسا في موضع يمكنهما من إجبار النظام على اتخاذ قرارات سياسية ليست في مصلحته” (ص: 3-4)، بدلالة مثال “اللجنة الدستورية”، التي جاءت المشاركة فيها نتاج ضغط روسي، بحسب الورقة الأوروبية، إنما مع تأكيد الدولة السورية على أنها لن تسلم رأسها لتلك اللجنة ومخرجاتها. وتضيف الورقة الأوروبية: “من منظور النظام السوري، روسيا وإيران شريكان، لا مديران” (ص. 4).
هي نقطةٌ يثبّتها طرفٌ معادٍ إذاً، لا ليبرئ الدولة السورية، التي يصر بعناد على تسميتها “نظاماً”، بل لكي يدرس بشكل موضوعيٍ كيف يبني خياراته في التعامل معها على أساس واقعي، لا على أساس حملة التضليل الإعلامي التي أطلقها هو وغيره ضدها، مضيفاً أن أوروبا، في غياب الاستعداد للتدخل عسكرياً في الميدان السوري، وفي ظل تأثير “أطراف آستانة” فيه، همشت نفسها، وعليها تالياً أن تبحث عن طريقة لممارسة تأثيرها الخاص في سورية، ذلك أن فرضها للعقوبات، وسعيها للضغط على الدولة السورية في المحاكم الأوروبية والدولية تحت عنوان “جرائم الحرب” وما شابه، وتقديمها المساعدات الإنسانية للاجئين وبعض المناطق في سورية، واحتواء آثار الحرب من لاجئين وإرهاب عليها، لم يثمر عن شيءٍ يذكر كأثرٍ أوروبي في الميدان السوري.
بناءً عليه، ترى الورقة الأوروبية أن خيارات الاتحاد الأوروبي في التعامل مع سورية هي خمسة:
1 – خيار متابعة السياسة الأوروبية الحالية إزاء سورية كما هي، حتى لو لم ينتج عنها شيء سياسياً، ما دامت كافية لدرء خطري الإرهاب وموجات اللاجئين.
2 – خيار متابعة السياسية الحالية كما هي، مع زيادة الدعم الإنساني، بشرط أن لا يمر عبر قنوات الدولة السورية، ومع ممارسة ضغط دبلوماسي ومالي لإعطاء اللاجئين السوريين في لبنان والأردن وتركيا وغيرها حقوقاً موسعة، منها حق الإقامة والعمل.
3 –خيار رفع العقوبات الأوروبية العامة عن سورية خوفاً من انفجار الوضع الاقتصادي في سورية، مما يمكن أن يولد موجات من اللجوء والتطرف، ويقوم هذا الخيار على دعم تركيا بشكلٍ خاصٍ، والعمل معها وعبرها، بشرط وقف التصعيد التركي ضد “قسد” والمجموعات الكردية الأخرى.
4 – خيار رفع العقوبات العامة والخاصة عن سورية والسوريين، وإقامة اتصال دبلوماسي مع الدولة السورية والقيام بإعادة إعمار على نطاق صغير، خوفاً من تحول سورية إلى “ثقب أسود إقليمي” يجتذب التجارة غير المشروعة، ويزيد من ارتباطها بإيران وروسيا، ويعزز من سلطة “عصبة” من القيادات الأمنية، لتتحول سورية بذلك إلى مزيج من “الأتوقراطية على النمط المصري وحكم أمراء الحرب على النمط الصومالي” بحسب كتاب الورقة (ص. 7)، على أن يتم الدخول الأوروبي بشكل يحرص على عدم وقوع الدعم الأوروبي بيد الدولة السورية.
5 –خيار الإقرار بالدولة السورية منتصراً في “الحرب الأهلية” (والعذر على المصطلحات المفخخة مثل “الحرب الأهلية” لكن لا بد من نقل الكلام كما هو) من دون شروط، باعتبار أن ذلك يمكن أن يساعد على عودة اللاجئين، وعلى تحسين العلاقات مع روسيا، والعديد من الفوائد الأخرى، منها الفوائد الاقتصادية لأوروبا من إعادة الإعمار، والتعاون الأمني، بحسب الورقة.
بعد استعراض حسنات وسيئات كلٍ من الخيارات أعلاه، من منظور المصالح الأوروبية دوماً، والمكونات التنفيذية لكلٍ منها، تصل الورقة إلى أن الخيارين 1 و2 يُفقدان أوروبا أي قدرة على ممارسة النفوذ في سورية في مرحلة ما بعد الحرب، وأن الخيار رقم 5 يمثل استسلاماً أوروبياً فعلياً، لكنه يعمل بمبدأ محاولة التأثير على هامش العلاقات الطبيعية، وترى الورقة بأن تلك الخيارات، المرقمة 1، 2، و5، فرص نجاحها كسياسة أوروبية قليلة أو قليلة جداً، ومخاطرها السياسية عالية أو عالية جداً، فيما الخيارات رقم 3 و4، فرص نجاحها متوسطة، ومخاطرها السياسية متوسطة، مع التنويه إلى أن الخيار الرابع الذي يتضمن رفع العقوبات الأوروبية العامة والخاصة لن يلقى دعماً داخلياً أوروبياً كافياً ليمر حالياً.
التركيز إذاً على الخيار الثالث الذي يتضمن رفع العقوبات العامة عن سورية، وليس الخاصة، وهو الخيار الذي يتضمن إعادة صياغة العلاقة مع تركيا باتجاه بلورة سياسة أوروبية في سورية بالتنسيق معها، ويشير كتاب الورقة هنا إلى أن “الرئيس أردوغان ربما لا يكون محبوباً في الاتحاد الأوروبي، لكن تركيا أكثر بكثير من شخصية أردوغان، وذلك البلد يبقى في آنٍ معاً حليف ناتو وجاراً للاتحاد الأوروبي” (ص. 9).
الملفت في الورقة أنها تناقش فكرة الاصطدام مع قانون قيصر الأمريكي، الذي يشدد العقوبات على سورية، لإحداث ثغرة تنفذ منها أوروبا إلى سورية، ويؤكد كتاب الورقة على هذا الصعيد على أن الدعم الأوروبي لسورية لو تم سيمر عبر مؤسسات حكومية أوروبية، لا تمكن معاقبتها أمريكياً، على عكس الشركات الخاصة الأوروبية التي تخاف خسارة السوق الأمريكية الكبيرة، كما يمكن أن يعمل الأوروبيون في سورية مع شركات تركية وعراقية ومصريةلا نشاط تجارياً لها في الولايات المتحدة الأمريكية (ص. 9).
باختصار يرى كتاب الورقة أن المطلوب في هذه اللحظة هو تقليل الخسائر، إذ “لا تتوفر لدى الاتحاد الأوروبي خياراتٌ جيدة للتعامل مع نظام الأسد” (ص. 11)، ويرون أن الخيار رقم 3 بالتالي هو الأقل سوءاً، على أن يتم التمهيد للخيار رقم 4 لممارسة دور أوروبي مستقل لاحقاً. أما خطة العمل الأوروبية المنبثقة من الخيار رقم 3، والتي يرى كتاب التقرير أنها يمكن أن “تخفف من آثار النصر السوري”، فتتلخص بما يلي:
1 – إعادة تصميم الدعم الإنساني داخل سورية بما يقلل من وصوله إلى أيدي “النظام”.
2 – زيادة الدعم (عبر المنظمات غير الحكومية؟) لمواجهة مشكلة الفقر المتنامية.
3 – تقديم المزيد من الدعم للاجئين السوريين في المنطقة لتحسين حقوقهم القانونية في الإقامة والعمل.
4 – تقبل المزيد من اللاجئين السوريين في أوروبا لإبداء “التضامن”.
5 – زيادة زخم الجهود الدولية لتحميل الدولة السورية مسؤولية قانونية في المحاكم.
6 – إعادة بناء العلاقة مع تركيا كحاجز أساسي، وكشريك في سورية.
7 – رفع العقوبات العامة الأوروبية عن سورية مقابل موافقة الدولة السورية على إعطاء الأوروبيين “حق” تمرير المساعدات داخل سورية كما يشاؤون.
لا شك إذاً في أن وقائع الميدان السوري تفرض ذاتها على العقل السياسي والاستراتيجي الأوروبي، وأن مجرد مناقشة رفع جزء من العقوبات الأوروبية، ولو بالتصادم مع الولايات المتحدة، هو أمر إيجابي، وكذلك الإقرار بالنصر السوري عملياً، أما الخطير فهو التوجه الأوروبي الذي يراهن على المنظمات غير الحكومية كبديل للدولة في سورية، ومحاولة تهميشها، وبلورة سياسة أوروبية داعمة لتركيا في سورية، يحدوها الرهان على تصاعد الصراع التركي-الروسي في شمال غرب سورية، وهو ما قد يفسر الكثير من خطوات بوتين إزاء تركيا في سورية أيضاً.