الفن الشعبي.. صورة مستمدّة من الحكايات والملاحم البطولية
يقوم الفن الشعبي على صيغة تشكيلية بدائية تعرض صوراً مستمدة من الحكايات والسير الشعبية والملاحم البطولية التي صورها الإنسان عبر تاريخه الطويل واحتفظ بها في البيوت التي تكون في القرى أو في المناطق السكنية الشعبية، وهذه الرسوم لا تحفل بالقيم التشكيلية المدرسية التي تعتمد الدّقة وتعتمد القواعد والأصول.. إنّها ترسل أدواتها التعبيرية على الفطرة حتى تبدو أقرب إلى تصاوير الأطفال. وقد تجلّت هذه الرسوم في منطقتنا، كما في غيرها من مناطق العالم على شكل رسوم على واجهات البيوت، وعلى السجاجيد التي تصنعها النساء، بالإضافة إلى بعض الرسوم على الزجاج والفخار، وفي الفترة الأخيرة بدأت هذه الرسوم تظهر على شكل لوحات وتباع في الأسواق، ونجد بعض هذه الرسوم في لوحات صغيرة تمثّل الإمام علي في جلسة جبهية، وقد أحاط به نجلاه، وظهرت خلفهما بعض المعالم العمرانية وأشجار النخيل، وفي صورة أخرى نجده في موقعة “الخندق” ينازل أحد المشركين. وفي صورة ثالثة نشاهد النبي “نوح” مع رسوم لرجال صالحين على ظهر سفينة، وفيها طيور وحيوانات وهناك صورة “البراق” على شكل حصان مجنح رأسه رأس امرأة، ويعلوه تاج مزخرف.
وهناك صور أظهرت بعض فرسان العرب، كشخصية “عنترة” وابنة عمه “عبلة” وأخيه “شيبوب”، وصور أخرى تظهر بني هلال أصحاب التغريبة المشهورة، فيظهر فيها الفرسان أبو سعدة الزناتي خليفة، ودياب بن غانم يعتليان فرسيهما، وقد حمل كلّ منهما رمحاً بيده، وفي اليد الثانية حمل درعاً، ونجد في خلفية المشهد أرضا صحراوية فيها بعض أشجار النخيل، وهناك بعض المواضيع التي تصور الاحتفال بعودة الحجاج، أو ذهابهم، فهناك لوحة تصور ذلك بقيادة أمير الحج، وقد تقدّمه المحمل الخشبي المجلل بالأثواب المزدانة بالرسوم والزخارف الملونة والمذهبة تحيط بها آيات قرآنية، وترتفع على ظهر جمل تكسوه الزينة التقليدية، وجمل خلفه مخصّص لحامل الراية “العكام” وثمة رجال وفرسان ودراويش وخيول، تعلوها جميعاً صورة الوالي، وهناك صور تمثل عيد المولد النبوي، أو جلوس السلطان على العرش .
هذه النسخ التي وصلتنا أنجزها الفنانان كمال جراب الحلبي، وأبو صبحي التيناوي، وهي صور تعلق في معظم البيوت في ذلك العصر، فمن هو أبو صبحي التيناوي الذي وُلِدَ في دمشق عام 1888، وتوفي فيها عام 1978، هذا الرسام لم يتعلم في مدرسة، ولم يغادر دمشق كلّ حياته، ولم يتودّد إلى وسائل الإعلام، ولا أقام المعارض لنفسه، إلا أنه نال من الاهتمام والاعتقاد بفنه في غالبية عواصم العالم. إنّه يمثل العفوية الساذجة التي تجسد القيم النبيلة، فعنترة بالنسبة له يمثل القوة وعبلة ست الحسن بلا منازع، وإننا نجد في اللوحة الصدق والخبرة والإتقان، ونجد مهارة الحرفي كذلك، كان يرسم الشخوص ويضع أسماءها بجانبها: عنترة – الإمام علي وعمرو بن ود العامري – الزير سالم – أبو زيد الهلالي– محفل الحج – الظاهر بيبرس – سفينة نوح، وعلى يمين اللوحة يضع اسمه “الرسام أبو صبحي التيناوي– دمشق– باب الجابية – زاوية الهنود”. رسم على الزجاج والقماش، مارس الرسم بألوان حادة، تأثر بالقصص الشعبية، وشخصياته فيها مزيج من الفرح والتأهب والثبات، فقد كان يردّد وهو على فراش الموت: “أنا ما هاممني المرة والأولاد ولا البيت.. أنا اللي دابحني فراق عنترة”، وقد كان يصنع الألوان بنفسه، تتميز أعماله بالبساطة وحسّ لوني رفيع .
وهناك أنواع أخرى من الفن الشعبي، نجدها في الرسوم التزينية التي تكسو واجهات البيوت الريفية المبنية من الطين والتبن والمطلية بالكلس الأبيض، وهي تتضمن رسوماً مستمدة من البيئة المحيطة بالريف، وفيها الأشجار والطيور والأسماك والزوارق، بالإضافة إلى رسم الكعبة المشرفة التي تزين أبواب البيوت في بيوت الحجاج، بالإضافة إلى الرسوم الزخرفية النباتية.
وعرفت بلاد الشام التصوير على الجدران، وتقوم هذه المواضيع بالتصوير على الجدار بعد تأسيسه بملاط أبيض والرسم عليه بخطوط داكنة تكسوها الألوان المتباينة، وكان الأمراء الأمويون قد شيدّوا قصوراً لهم في البادية السورية، وتضمنت قاعات وحمامات مزينة ببعض اللوحات الجدارية التي تمجّد الملوك أو مناظر للصيد والطرب، وبعض الزخارف النباتية والطيور، وقد ضم قصر الحير الغربي عدداً من الصور في قاعة الحمام الساخنة وهي تمثل راقصات ونساء شبه عاريات، كما تضمن مشاهد الصيد وصوراً لآلهة الإغريق، بالإضافة إلى صور تزيينية لحيوانات وطيور وزخارف نباتية. وقد عثر في مدينة حلب على صور جدران ملونة لزخارف نباتية تتوسطها رسوم العذراء تحمل المسيح وهو طفل، وهي محفوظة في متحف برلين، ووجدت في معابد دورا أوروبس صور تتضمن موضوعات دينية (قصة النبي موسى). كما تعتبر صورة “الصعود” من الأعمال الرائعة التي تمتاز بالتكوين المتين والصياغة الشكلية الناضجة التي تظهر دقة الأشكال وحيويتها في التأليف بين العناصر على نحو مثير للإعجاب.
فيصل خرتش