بلاغــة الدائــرة
د. نضال الصالح
تنتمي تجربة التشكيلي السوري فداء منصور إلى السهل الممتنع الذي يميز التجارب الإبداعية العالية عادة، والتي توهم بندرة مفرداتها مظهراً بينما هي عصية على التمثيل أو التقليد جوهراً، أيّاً كان شكل التعبير الذي تنتمي إليه، لوحةً أو نصّاً أدبياً أو صورة ضوئية أو.. وتفصح هذه السمة عن نفسها في غير عنصر من حوامل عمارته التشكيلية التي تتسم، في الأغلب الأعمّ من تجربته، باقتصادها الواضح في مكوّنات فضائيها النصّي والجماليّ، ولعلّ من أبرز تلك الحوامل اختيار منصور الدائرة أسّاً في بناء مفردات اللوحة، ولاسيما ما يعني الشخصيات الإنسانية فيها، والتي تمثّل متناً في فلسفة التصوّف، ولاسيما لدى الحلاج الذي عبّر عن ذلك في الطواسين بقوله: هيهات من يدخل الدائرة والطريق مسدود، والطالب مردود، فالنقط الفوقاني همّته، والنقط التحتاني رجوعه إلى أمله، والنقط الوسطاني تحيّره. والدائرة ما لها باب.. فاللون الذي يشغل معظم المساحة المعبّرة والدالّة بآن على كلّ عنصر، والذي يبدو مفرداً بنفسه على امتداد هذه المساحة عياناً، لكنّه ممتلئ بنفسه وبسواه من الألوان واقعاً ومجازاً، ثمّ الخطّ الفادح في تمييزه عنصراً من آخر على نحو يوحي بانغلاق العنصر على نفسه أو بقطيعته مع العناصر الأخرى بينما هو يثمّر أطروحة الحلّاج عن الدائرة، ويطلقها من فضائها اللفظيّ إلى فضائها الجماليّ، وليس أخيراً ذلك الحضور اللافت للنظر لمرجعين إنسانيين دالّين على قيمتين معاً: الخصب كما ترمز المرأة الأم له، والطهر كما يتجلّى في عنصر الطفولة، الذي يبدو في معظم لوحات الفنّان بازغاً من روح المرجع الأصل، لا من جسده، ومتوحداً مع نداء عينيه للمطلق والمثال.
تستعيد لوحة فداء منصور العالَم في تجلّيه الأوّل مفعماً بالفطرة ومترفاً بالطمأنينة وطاهراً من الدنس، وهي تجهر بهذه الاستعادة من خلال الشخوص العابقة بها، فمن خلال وضعيات هذه الشخوص التي تبدو شديدة التآلف فيما بينها، ومعبّرة عن عمق إحساس كلّ منها بالآخر في مواجهة شيء ما يهدّد وجودها الإنسانيّ، أو يحاول العصف بهذا الوجود، وعلى نحو تعبيري وثيق الصلة بما يصطلح عليه في علم الجمال بالتربية الروحية من جهة، ومؤكّد لأطروحة فريدريك شيللر القائلة بتربية الإنسان من خلال الفنّ وبوساطته من جهة ثانية، ودالّ على صواب ما انتهى برتليمي إليه من أنّ العمل الفني الجدير بالبقاء هو الذي يعمل على تحويل العادات بدلاً من أن ينقلها كما هي من جهة ثالثة.
وبعد، فإذا كان من الصواب القول إنّ لوحة منصور تتأبّى على التصنيف في مدرسة تعبيرية محددة، فمن الصواب بآن القول إنها تؤسس لنصّها الجماليّ الخاص بها، وتسعى عبر ذلك إلى إبداع ملفوظها الفني الذي ينتسب إليها، منجزة بذلك هويتها التشكيلية التي تميزها من تجارب جيلها، كما تميزها من التجارب التي سبقتها، محققة بذلك الشرط الأول لبقاء العمل التشكيلي في الذاكرة طويلاً، وللخلود في تاريخ الفنّ.