الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

عبد الرحمن أبو القاسم

حسن حميد
أكاد لا أصدق أن رجلاً تجرّد من كل شيء، وترك كلّ شيء، وحيّد الشواغل كلّها، كي تصفو روحه مثل نبعة ماء، ليأخذ الفن غمراً بين ذراعيه، وفجاءَة.. يرحل!
كيف، أيها الحبيب، تستدير من دون تلويحة، من دون همهمة، هكذا وطيّ إغفاءة باقية من عهد الطفولة، كيف؟ ولمن تركت المواعدات التي عقدتها مع العارفين بأسرار المسرح وعشقه الهميم، لمن تركت أحلامك بلا نوافذ بلا أبواب بلا دروب، ولمن تركت المسارح التي آختك من المهد إلى اللحد، أما كان شوقك يأخذك إليها في النهار معاتباّ لكي تنادي أهلها من كتّاب وممثلين ومتفرجين، أما صرخت بها صرخة الحيران: انهضي، افتحي الأبواب، والشوارع، والصدور، لكي تصير الدنيا أكثر عقلانية، أكثر لطفاً، أكثر جمالاً، كيف؟ ولم تغادرها مرةً، في المساءات، إلا بدموعك الطافحات بالفرح، وأمامك الناس وقوفاً مبتسمين هاتفين محيين، وقد غمركم نور قمري لا تراه إلا العيون التي حباها الله باليقظة التّامة، والقلوب الرّائية للسحر الحلال، ولم تغادرها مرةً، في النهارات، إلا بدموعك الطافحات بالحزن لأن ليل الغياب عمّها، وكوى روحها بجمرة كبيرة.
كيف ترحل؟ وأنت الباحث المنقب عن النصوص، تسأل هذا وهذا وذاك، تقول بصوتك المحتشد بالحنية: قلبي يكاد يخرج من صدري شوقاً للمسرح، أريد المسرح، المسرح يناديني، أهذه القولة لك؟ أم لتشيخوف الذي أحب القصة القصيرة، وعشق المسرح، أهي لك أم لـ إبسن الذي كان يدع الكتابة في منتصف الليل ويذهب إلى المسرح، يرجو الحارس أن يفتح المسرح كي يرى ويحس بوحشته وقد غدا وحيداً، وحين يستدير يقول للحارس: قلق، وأرق، جئت لأطمئن عليه، أكنت تحسّ بالحمى التي اشتعلت بجسد المسرح، فتأتيه نهاراً كي تدرك حجم وحشته، أم كنت تتقصد المرور به مساءً، مرور العاشق، لتقول له همساً: استعد، تزيّن، موعدنا اقترب! يااااه، كم حلمت بساعة من حديث المسرح العذب لا يدور إلا حول القدس، كم حلمت أن تدور في شوارعها وباحاتها وأسواقها وعقباتها (حاراتها) وتلالها وأوديتها ومقاهيها وبيوتها دورةَ درويشٍ أسكره المعنى، وأن تقف تحت أقواسها وشرفاتها ودواليها وأروقتها لكي ترى، رأي العين، كيف تدلت السماء لتباركها، وكم حلمت أن تتلبث واقفاً، وبالخشوع كلّه والمهابة كلّها، تحت مطرها النثيث، وغيومها التي تمرّ بوجهك مسحاً كي تضيء.
كيف هذا، ترمي عصاك وترحل؟ ومَنْ المنادي عليك؟ لتتركنا، وأنت تنادينا بـ الأحبة، أهي صفورية العشيقة، أم هو بيدر من بيادرها الفضية ناداك لتعود ذلك الصبي الراكض في مروجها، وبين أشجار زيتونها، وقرب حقول دودحانيها، فلا يرتمي جسده الغضّ إلا عند حافة غدير من غدرانها.
كيف هذا، وقد حلمت بجولة مسرحية عالمية ليس من رفيق لك فيها سوى شوقك العميم للبلاد أم الكريفون والبرتقال والزعتر والزيتون والطيون والسعد والحلفا والبربير والقصب، للبلاد التي أخذها سيدنا غمراً بالمحبة كي تصير زرع الناس وحياتهم. كنت خططت وعزمت على أن تصرخ بالعالم الأصم الأعمى أنك وأهلك تمشون في الدرب الذي افترعه سيدنا، درب المحبة، لكي تعود البلاد من غربتها، ومن غسولها الدموي، ومن موتها اليومي، ومن عالم الإخافة والتهديد والوعيد، لكي تعود من ثقافة البطش والسجون والإذلال إلى ثقافة المحبة والشوق للمحبة، ولتقول للعالم الجهول المعمّى بالمصالح، إن الغاصبين هم من شقّوا درب الآلام، هم من بنوا السجون، وهم من مدواّ المقابر لتصير قرى للحزن، وهم شانقو الفرح، قلتَ سأدور العالم وليس في زوادتي سوى فني ورؤياي ورغيف خبزي وزيتوني وعشقي.
أتُراك، الآن بدأت جولتك، وأن غيابك حطّ علينا مثل ضباب ثقيل، فما عدنا ندرك غياباً من غياب! لعلنا، فالحيرة.. تنهبنا!
hasanhamid55@yahoo.com