دراساتصحيفة البعث

كورونا .. سياسياً

الدكتور سليم بركات

كل المعطيات التي يعيشها العالم مع جائحة كورونا تشير إلى أن هذه الجائحة قد تسبب بمتغيرات سياسية عالمية هائلة، متغيرات تفرض حقائق جديدة تؤكد شيخوخة النظام السياسي العالمي، الذي برز بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بكل معطياته السياسية منها والفكرية، الاقتصادية منها والعسكرية…ودليل ذلك هو سرعة الاستجابة إلى هذه الجائحة والتعامل معها من خلال بعد سياسي جديد مسّ مفاهيم سياسية كالدولة، والسلطة، والحدود، والحرية…أكثر مما مسّ ترهل الأنظمة الصحية التي تصدرت قائمة فقدان السيطرة على أعداد المصابين بالفايروس، وحتى بالإسراع في إجراءات العزل لتجعل من هذه  الجائحة الكورونية الحدث المفاهيمي السياسي الجديد. حدثاً لا يقل تأثيراً عن جملة الأحداث التي اجتاحت العالم ويأتي في طليعتها وجهة النظر الأمريكية المهيمنة والمتحكمة بمقدرات العالم سياسياً، واقتصادياً، وعسكرياً، والتي تؤكد أن العالم أعقد من أن تحيط به وجهة نظر واحدة، أو عدسة واحدة، أكان ذلك من خلال منافسات الدول الكبرى، أم كان ذلك من خلال الأفكار الليبرالية السائدة وغيرها من الأفكار المهتمة بتغيير المناخ، وتجذر الهوية، والتطور التكنولوجي…وكلها ترسم صورة العالم السياسي المعاصر وتحركه نحو المستقبل، وعادة ما يشارك الطريق إلى هذا المستقبل مظاهر يأتي في طليعتها ارتباك الحياة، والعلائق المجتمعية، وبالتالي تفشي حالات الذعر والإرهاب، والإشاعات، والإنكار، ومن ثم الذهاب إلى التأويلات ونظريات المؤامرة، وما يلازمها من أفكار وتخيلات تدخل تحت مفاهيم الثقافة وأطروحات نهاية الزمان، والعالم، وكلها تعكس هشاشة الفكر الإنساني، وحضانته النفسية أمام الأزمات الكبرى.

ما من شك أن عالم السياسة في ما بعد كورونا لن يكون كما قبله، حتى ولو تغاضينا عن جملة الكوارث التي سببها هذا  الفايروس، والتي ستغيّر الآراء تجاه القضايا الحياتية نتيجة الخسائر الكبيرة التي منيت بها البشرية على الصعد كافة، وفي جميع المجالات والتي ستفتح أبواب الحوار الإنساني العقلاني على مستوى العالم، حوار يخصّ الصحة البشرية والبيئية، وتأثير الأوبئة فيهما، حوار سيفتح البصيرة الإنسانية على مواجهة هذه الأوبئة مهما كانت هشاشتها، وعلى رأس هذه المواجهة  التخلص من هذا الفايروس الكوروني، الذي يجتاح عالم اليوم وهو يرجح نظرية المطالبين بالتعاون الدولي، لا نظرية من يريدون الانكفاء على خصوصياتهم الوطنية. ولما كان غلق الأبواب على الخصوصية الداخلية لبلدان العالم سيكون مآله الفشل، فإن الأمر سيؤدي إلى تقبل هذه البلدان انخفاض ما يسمى استحقاق السيادة الوطني لصالح استحقاق السيادة الإنساني، وهذا يعني أن من مصلحة هذه الدول غرباً وشرقاً شمالاً وجنوباً، أن تتعرف على كيفية إدارة  مصالحها، والتي لن تقتصر على مصالح دولة بعينها دون الأخذ بمصالح الدول الأخرى، بمعنى أن عالم ما بعد كورونا، سيكون عالماً مترابطاً دولياً من أجل تنفيذ برامج واسعة تساهم في تحسين الصحة الإنسانية، وهي متفقة إلى أي مدى سيذهب بعضها مع البعض الآخر على حساب ما يتمتع به من حرية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا الخضم هو إلى أي مدى ستبقى دول العالم متكاتفة وهي تخوض المعارك السياسية والعلمية وعلى كافة الجبهات في مواجهة هذا الفايروس المدمر؟ وهل سيبقى مثل هذا التكاتف قائماً في المستقبل؟ ليكون الجواب لا، لأن الشكوك ستبقى هي المتحكمة وليست الثقة، إنها الطبيعة البشرية القلقة المتجهة نحو التطور، والتي تقرع باستمرار أبواب العالم مستمدة زخمها من الفايروس المستجد نفسه مهما كانت نوعية هذا الفايروس، للانتقال بالنظام السياسي العالمي من حالة موبوءة إلى حالة سليمة، و كيف  يكون هذا الانتقال إلا من خلال القلق الحضاري وما رأته البشرية من خلال تفشي وباء كورونا، الذي ترك انطباعاً سياسياً مضمونه ضرورة تفكك النظام الدولي القائم بسبب فشله في معالجة ما يجري من خروقات قد تؤدي إلى تدمير الحياة على سطح هذا الكوكب. كيف لا يكون والانطباع الذي أوجده وباء كورونا هو أن ما جرى ويجري ليس أكثر من أمر مقصود ومتعمد، ومن خلال حرب بيولوجية الهدف منها على سبيل المثال لا الحصر، الإفشال الأمريكي الامبريالي للتجربة الصينية الصاعدة والمتجهة في طريق المصلحة الأممية المتحررة من أنانية القطب الواحد إلى التعددية.

لقد ارتفعت الأيدي على مستوى بلدان العالم وعلى رأسها الصين، لتشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية هي السبب الرئيس وراء هذه الأزمة الكورونية، لكن هذا السيناريو توقف إلى حدّ ما بعد وصول الفايروس واجتياحه للداخل الأمريكي، وعلى الجانب الآخر -أي السيناريو الصيني- نجد رواية أخرى مختلفة وعلى رأسها الرواية الأمريكية التي تقول إن الصين هي خلف تفشي هذا الفايروس بعد أن تعمدت شراء الأصول الاستثمارية الغربية وعلى رأسها الاستثمار الأمريكي وبأثمان بخسة تحقق الصين من خلالها أرباحاً خرافية، زد على ذلك تأكيد أصحاب هذا السيناريو على أن الصين قد فعلت ذلك متعمدة للاستيلاء على اقتصاد العالم، وأنها دولة لا تحترم حقوق الإنسان من وجهة نظرهم، لكن الحقيقة تقول لو أن الصين قد فعلت ذلك كله لفقدت مصداقيتها ليس مع شعوب العالم فقط، وإنما مع شعبها الذي ضحى بالكثير من أبنائه ممن فقدوا حياتهم بفعل هذا الفايروس، إنها ليست كذلك، لأنها تحترم هذه الحقوق على مستوى شعبها وشعوب العالم أيضاً، وقس على ذلك السيناريوهات الأوروبية المتعددة، الإيطالي منها والألماني، الفرنسي منها والبريطاني… وهل نجانب الحقيقة إذا قلنا  إنها حالة انعدام الثقة بين دول العالم، ولاسيما بين الأقطاب الكبرى التي تجلت في المرحلة الكورونية المعولمة، والتي باتت أكثر قدرة وتأثيراً على حياة الشعوب وإلى درجة أصبحت من خلالها منظمة الصحة العالمية أكثر سلطة وأكثر قدرة ومنعة وحصانة تتجاوز من خلالها أي قيادة سياسية في وسط هذه الأزمة، في الوقت الذي لم يعد فيه من هو قادر على مخالفة تعليماتها بشكل أو بآخر، وفي الوقت الذي أصبح فيه جميع سكان قارات الأرض مطالبين بتقديم ما لديهم من معلومات بشفافية ووضوح غير مسبوقين، وإلا فإن هنالك عقوبات عالمية ستفرض من تلقاء نفسها معاقبة من يحاول خديعة الآخر، سواء أكانت هذه الخديعة عبر تقديم معلومات مغلوطة، أم كانت من خلال عدم تقديمها أيضاً.

على صعيد الوطن العربي نجد الأزمة الكورونية متلاصقة مع الواقع العربي المتخلف والمتشظي إلى درجة مأساوية، الأمر الذي جعلها تأخذ بعدا آخر على الصعيد السياسي العربي  المشتبك مع ذاته، لتصبح أزمة الفايروس الذي لا يعرف هوية أو عقيدة، ميداناً لتراشق الاتهامات والجدل العبثي الساذج، والمتصفح للواقع العربي يكتشف حجم المأساة التي يعاني منها العرب على خلفية الأزمة الكورونية الكارثية، مما يؤكد هشاشة وهزال التعاطي السياسي العربي مع وباء ينتشر بسرعة دون تمييز بين حاضن عربي وحاضن غير عربي، ودون أن  يقف عند حدود آمنة لأي دولة عربية، ولا حتى عند حدود الوطن العربي وغيره من الحدود الأخرى، لأنه لا يتطلب في تنقله تأشيرة سفر، ولا استمزاجا أمنيا لدخوله، وهذا بدوره يجعل من كل دولة عربية مسؤولة عن مواجهته ليس على مستواها فقط، وإنما على مستوى الوطن العربي بمجمله، ومن ثم على مستوى العالم أيضاً، وهل نبالغ إذا قلنا إن هذه المسؤولية تمتد لتشمل حق التبليغ عن حقائق الأزمة الوبائية وتطوراتها، إلى أن يتم القضاء عليها نهائياً. ومن ثم أليس من الأفضل للعرب أن يكونوا متوحدين متضامنين في مواجهتها ليكون  القضاء عليها قضاء مبرماً كونها تهدد سلامتهم ووجودهم كما بالنسبة للشعوب الأخرى؟.

بقي أن نقول: لقد أعاد فايروس كورونا العالم وفي عصر العولمة إلى سيرته الأولى فدوله مغلقة الحدود في وجه بعضها بعضاً، وهي أقرب إلى الجزر الصغيرة المترامية بعيداً، كما جعل من الولايات المتحدة الأمريكية المهيمنة على دول العالم  دولة عادية كبقية الدول، لا بل دولة تتمتع بسلطة غير أخلاقية، وهي في أفعالها تجاه شعوب العالم  ليست أكثر من نشاز لن يستمر طويلاً في التاريخ الإنساني. إن عالم اليوم ينتظر ولادة نظام دولي جديد، نظام ما بعد الأحادية القطبية، نظام  المؤسسات الناظمة للعلاقات الدولية الإنسانية المنفتحة على التعاون، إنه عالم ما بعد كورونا.