“مجازات الماء”.. حوارات داخلية للحياة والتبدد!!
في مجموعته الجديدة “مجازات الماء”، الصادرة عن دار أرواد للطباعة والنشر والتوزيع بطرطوس، وهي المجموعة الشعرية الرابعة للشاعر، لم يختلف احمد نصرة كثيرا عن مقارباته الشعرية في مجموعاته السابقة، من حيث أنه يأتي للشعر من الفكرة مسلطا الإضاءة على المعنى عبر الاختزال، وكأن اللغة ليست متاحة إلا بالقدر الذي يعطيه الاختزال والاختصار ويفي بحاجته للتعبير.. مكتشفا مصطلحاتها الاكثف وصولا للشاعرية مع الإشارة حتما إلى أن نصوص هذه المجموعة الموزعة على حوالي 100 صفحة من القطع المتوسط، تتمدد على مساحة أوسع من الورق مما ألفنا عن أحمد نصرة.. ما أتاح مساحة لضبط الانتقالات من منصة اللفظ إلى المخيلة بشكل يسمح بالاستراحة وحفظ التواتر الشعري معا (الغربة تكرار اللون في الجسد/ أن وجهك نهر/ وهذا/ الماء/ زبد) ص 27، ليكون الشعر معبرا بين زمنين زمنه الخاص (حيث وجهي، تمضي الأشجار/ عارية،/ ويستريح موج الوقت،/ لصوتي/ رجع الريح في مفازات/ الصمت/ ولخطاي/ صحاري التيه في مهب الريح/ أحمل نقيضي على نعش الأخر في،غريبا/ وأغني)، ص 26، والزمن المرئي المعاش بكامل إرهاصاته التي نعرفها والتي نتلمسها أيضا بينما أصابعنا تفقد حاسة اللمس شيئا فشيئا..(اكتب نصك، وانسه،/ ولأن ليس ثمة فارقا/ عد واحذفه / فقد تأخر الوقت/ تأخر)، ص 7.
الإجابة على هذا السؤال قد لايحيل للوهلة الأولى لتبسيط اللغة باتجاه تقريبها من المتلقي.. لكن ما يمكن ملاحظته بخصوص إشكالية الحوار عند أحمد نصرة لا يتوقف عن الظاهر/ باطن (من خواص الصوفية) بل يتعداه إلى السؤال الجوهري إلى أي حد يمكن للشاعر أن يقدم مستويات اللحظة الشعرية بما يعزز واقعيتها أو انفصالها، وطباعها المضمرة والمعلنة، فإنشاء الصور بتلك المشهدية هو المهمة الأسلوبية الأهم في الشعرية الحديثة، إضافة للتكوين السردي والبصري المتشكل كونه هدفا بذاته يؤدي لكسر الرتابة وتشخيص هوية الحوار الداخلي مع هذياناته العاقلة وإمكانياتها البلاغية والأسلوبية، وقد وجد أحمد نصرة بهذا الإبدال حلا مناسبا (نصف احتمالي/ لنصف غيابك/ فكيف/ وكلي/ غياب!؟)، ص 24، فهو لايغلق نوافذه في وجه التعبير المجازي للتشبيه ولا يلوي عنق المفردات باتجاه السردية أو السياق المعياري للغة (وأشاغل الخوف بالحديث/ بلغة الجمع / بينما/ أراقص مفردي/ على/ الجسر)، ص 25. مابين الاستهلال وعناية الشاعر بالخواتيم يجري الشعر بعذوبته التخيلية والترميزية، يتجلى الموت كمعادل للولادة وجها الصراع الأزلي للحياة والذي يحيد بها نصرة في مجازات الماء عن مقاصدها المباشرة ليحملها برؤى تصاغ بقوة الحياة، وتناميها كمرايا تعكس تفتح المخلية وتقيم حواراتها معها (العطر أن يتلاشى العطر/ وتبقى/ أن تقبل خدها/ فتسمع روحها/ بوح عطرك)، ص49، حتى حين يلجأ للترميز فهو لايتقصد تعميق الدلالة أو فتح أفق التوقع والـتأويل، بل الاسترجاع والاستباق اللذين يتناوبان انطلاقا من الحياة الخلق والموت البدر والمنتهى والتماهي والشغف بالاندماج بالكوني..(روحي، يشبهها الغجر،/ وأنا لا أشبهني/ بالكاد أغني جسدا/ حلق في المساحة المنفلتة/ بيننا/ ثم تلاشى) ص 59.
جماليات الانزياح اللغوي الذي يتمثل بنصوص قصيرة لاتتجاوز الشفافية إلى الغموض بل تعمل على التلميح لطريق تتجلى ثيماتة الرئيسية في كشف الجمال في سياق تأسيس رهان الحداثة والتجريب (لم تحمل القصيدة عنوانا/ لم يقرأها/ أحد/ كذا القلب/ مواسم هجرة/ لم يعتدها/ فضاء) ص 58.
منسجما مع الحضور الذي يتوزع بين شفافية الجملة ويتمظهر على مستوى المضمون لحظة تصادمها مع سلطة الوعي، وهي الحامل الاستراتيجي لنقل اللغة إلى مستوى التبسيط والفهم، يلغي المسافة بين الجملة الشعرية والمقولة ليتيح إمكانات البوح الذاتي الحميم، ما يؤدي لتوليد التشويق والتحفيز للإصغاء إلى دوي وقع الجملة في أعماقنا (يشرق الوقت في/ الغريب/ الغريب/ مرآة ظل/ الوقت/ الغريب)، ص 79.. يحضر الفضاء المكاني عبر علاقته بالزمان يشمل مفارقات وفجوات توتر تخلخل التوقع وتضعنا أمام احتمالات ودلالات المفردة بوصفها الملتبس يعيد بها ومن خلالها ترتيب اشتغالاته لتشكل نقاط ارتكاز تشي بالمشهد ودلالته (أقل من حي/ أكثر من ميت/ أرتحل في/ بينهما) ص-78.
أحمد نصرة يطلق وترا جديدا بشفافية واضحة، حيث البلاد وألمها حكاية شخوص حكايا جزئية داخل هذا الكل (غدا، سأكون الغريب/ الوحيد، الحزين!/ كنبي ضال/ كنبيذ فاسد/ كقطة جرباء/ تلعق شوارع المدينة الدامية)، ص 92. نستطيع أن نرى هنا وجها إنسانيا يقيم تقابلا بين واقع الحياة (كأن هذا الخراب، لي/ ولك، أبدية الموت/ على جدائل الطريق المغزول/ على ضفاف/ أحزاني.. إليك) ص 67، وآخر ذاتي خاص(خذلاناته!/ ماكان حريا بالحزن أن يضيفنا) ص 75. وان كان يتمحور حول تصوير النفسي وعلاقتنا مع الغياب والفقد والموت بوصفه تجلٍ وانعتاق كفكرة ابعد من الصوفية، المحور الثاني الحب كتماهٍ كلي للخلق والتجدد والشجن المديد (راقصيني!/ عمياء – وعمية/ محاولة.. / الزمن) ص 42،
في بعضها يكون المستحيل شرطا يرتبط بمسبباته (أنا نضج الخريف/ يقول الربيع/ الربيع سابق الشتاء،في المعنى/ والصيف، متأخر../ وأنت/ أنت الدورة فيك/ اكتملت) ص 43. وقد تكون الرغبة بالموت كشكل من الخلاص فيفضل انزياح الشرط القدري ليطلق روحه في غمرة انشغالاتها المتعددة كشعاع، فالمساحة الفاصلة بين الولادة الخلق والموت الانعتاق ليست بكافية لتسجيل، سيل الصور والأمكنة والأشياء التي تبحث عن رفيقها (يا المجهول!/ يا../ أنا، تجليت، فغبت/ أقبل!/ لم يبق في الرؤيا/ ما يرى) ص 52. ويأتي العمل الشعري المميز للنصرة ليكون الواقع طرفا فيها ويتجلى عملا فنيا يستحق التنويه والتناول.. فلا يتقصف حبل الكلام ولا يتخلى عن طزاجته.
سمر محفوض