سعد يكن آثر رسم إحباطات البشرية
حين دلفت إلى مقهى القصر في مدينة حلب، تعرفت على وجوه الأدباء والمثقفين والشعراء والفنانين، ومن لفَ لفهم، وذلك في منتصف السبعينيات من القرن الماضي. وجدت بعضهم ينظر ساهماً عبر الطريق، وبعضهم يتناقشون في السياسة أو الثقافة، وشبان يدقون على الطاولة، أما هو الفنان سعد يكن، فقد كان يجلس صامتاً وبجانبه الفنان لؤي كيالي، كلاهما كانا ينظران إلى المقهى، سعد يملأ روحه بالكراسي والطاولات والبشر، ولؤي كان يحّلق بعيداً إلى باب المقهى حيث يجلس ماسح الأحذية .
سعد يكن من مواليد حلب عام 1950، عاش حياة رتيبة، وقد تعلّم في الكتاب قراءة القرآن الكريم، وباعتبار أنه وأهله يسكنون في وسط البلد تعرّف على الأقبية التي تبيع كتباً مستعملة فتؤجرها، وتؤجر المجلات كذلك، فصار ملازماً لها، يستأجر الكتب والمجلات ويقعد على درج البناية لقراءتها، ولا يرفع رأسه عنها إلا عندما ينهيها، وبعد ذلك تعرّف على موهبة الرسم عنده، وأصبحت شغله الشاغل، فكان لا بدّ أن يتعرّف على حياة الفنانين ودراسة سيرتهم الذاتية، والتعرّف على أصول وقواعد الفن والمدارس الفنية وقواعد اللون والضوء والتشكيل العالمي والعربي .
تطورت هذه الحالة فبدأ يتعرّف على الأدباء والكتاب والشعراء المحليين، ثم أولئك الذين أغنوا مسيرته وأثروا في سلوكه الشخصي، مثل (ألبير كامو، وكونستاس جورجيو، وهمنغواي وماركيز) وعندما توسعت دائرة معارفه الاجتماعية والسياسية، صار لا بدّ له أن يتعرّف على النظريات الاقتصادية والاجتماعية وعلم النفس، ومع اعتزاله ودخوله في عزلة ذاتية، دخل في قراءات كانت قريبة من مفهومه، فقرأ المتصوفة، وتعمق في دراسة ابن عربي والحلاج والسهروردي، وحوّل إشراقاتهم إلى أعمال تشكيلية تمثل أفكارهم وتلخص حيواتهم في لوحة واحدة، وله تجربة مع عدد من الشعراء وقد قدّم شخصياتهم في لوحات تعكس حالاتهم الشعرية “نزيه أبو عفش وعلي الجندي”، وكذلك عدد من الأدباء من بينهم “وليد إخلاصي”، ورسم لهم “البورتريه الذي لا يمثل شخصياتهم، وإنما يمثل موقفهم الإبداعي من خلال رؤيته لهم كفنان تشكيلي، وبعد أن هندس نفسه، رسم الفنان كلّ ما يحيط به في المقهى من كراسي وطاولات، رسم المثقفين وهم يتخاصمون، وهم يديرون ظهرهم إلى بعض، كما رسم النساء وهن في وادٍ، والرجال في وادٍ آخر، ففي لوحة “الملهى” رسم المغنية مبتهجة، وهي تصرخ على الرجال الذين أداروا ظهورهم لها، وكلّ غارق في حزنه لا يستطيع الفكاك منه .
لقد عانى الفنان، خلال مسيرته، ولكنه نجح في تقديم لوحة تهتم بالإنسان وتمسّ حياته ومأساته من قريب، فوضع لوحة بهذه الصرامة في غرفة فيها شيء من البطولة والريادة الفنية .
إنّه صمت منفرّد يعزف وحيداً على الألم البشري، لم تخدعه البهرجة والتسويق وظل مخلصاً لرسالة الفن، وقد قدّم إنسان هذه المدينة، كما يراه هو، قدّم اللوحة الجميلة والنظيفة دون أن يهتم بجمال البشر، إنهم في العمق الداخلي للوحته، وهو يحمل فرشاته ويفتح رؤوسهم وينقل كلّ شيء عن أفراحهم ومسراتهم وأحزانهم، وأحلامهم المنكسرة، وقد أفاض سعد يكن في إدخال إنسان المنطقة إلى مخبره، ليدرسه من خلال إنسانيته، ولم يعتبره أبداً على أنه تراث يوضع في متحف ليتفرج عليه السواح الأجانب.
سعد يكن اسم له رنينه في الفن التشكيلي العربي والعالمي، وهو اسم يعني الأصالة والمثابرة، يطور اللوحة من الداخل، لم يذهب إلى الحجارة ليعيد ترتيبها من جديد ليستدر عطف الزائر على بلدنا، ويريه إيانا في الأزقة والحارات والقناطر والجدران والمشربيات، ترك كلّ ذلك وتوجه إلى الإنسان الذي ينطوي على نفسه، فباغته في لحظة سكونه وفرحه، في أساه وألمه، في كبته وحرمانه، في تهميشه وضياعه، في انكسارات أحلامه، فمن يهتم ببائع الجرائد الذي يسحل قدميه، وهو يتجول في المدينة، يحمل آلامه بين يديه، لا يتخلف يوماً واحداً، في البرد والحر، والمطر، في وحدة الليل، يهرب من الناس، رغم أنه في وسطهم، إنها الوحدة والانعزال، فهل هي وحدة الفنان ينقلها إلى شخوصه، إنّها الحسّ المرهف الذي يلتقط أهمية “اللحظة” فيجدها في فراش رجل وامرأة، وكلّ منهما يعيش في عالم يختلف عن الآخر، كلّ واحد منهما يبتعد عن الآخر ليرسم عالمه الخاص به.
في عام 1964 تخرج الفنان سعد يكن من مركز الفنون التشكيلية بحلب، وفي العام الذي يليه بدأ يشارك في معارض الدولة الرسمية، ومع هذه البدايات راح الفنان ينتقل من المرحلة البسيطة في الشكل إلى المرحلة المعقدة لخوض تجربة متميزة عن الآخرين.
تعرض الفنان بدءاً من 1970 إلى معركة إثبات وجود، وتعرض للنقد والهجوم لكنه ظلّ مستمراً وثابتاً ومتابعاً رسالته الفنية، وقد رسم الطوفان، وفيه يمتزج التراب مع الماء والمرأة، التي ترمز إلى بداية الخلق ونهايته، ورسم بعدها الموضوعات المعقدة، فأقام معرضاً عن جلجامش وألف ليلة وليلة، ثم عن الموسيقا والمغنيين والأيقونة.
الشخوص في كلّ أعماله لا تنتعل أحذية، لأنه في عملية التحوير الجسدية التي يقوم بها يستخدم الوجوه والأطراف كوسائل تعبيرية رئيسية عن الحدث الدرامي في اللوحة، وهناك فرق كبير بين تحوير الشكل وتشويهه، فالتحوير يأخذ معنى إيجابياً، بينما التشويه يأخذ مفهوماً سلبياً، وموقفه من الفن يرتبط بتكامل حياته الشخصية والإنسانية، (أنا أرسم أنا موجود) وضمن شخصيته الصدامية والساخرة، ينقاد إلى اللوحة كي يكون فيها صارماً، ثم يعود مبتهجاً للتعبير عن كلّ الأشياء والموجودات والواقع، من إحباطات الإنسان ومآسيه الصامتة.
فيصل خرتش