ثنائية التوافق والتضاد بين الصين وأمريكا
ريا خوري
الخلافات البينية الآخذة بالاتساع بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية ليست نتيجة لما قاله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأن الضرر الكبير الذي لحق بنا نتيجة وباء “كوفيد 19” أو فيروس (كورونا) الصيني، وإنما هو تعبير صريح وواضح لمطالبته الصين علناً بأن تدفع كامل التعويضات لما لحق بها من ضرر نتيجة توقف عجلة الصناعة والتجارة والحياة بشكل عام.
وإذا ما تم فإن التدقيق بعمق في بنية تلك الخلافات يجدها كامنة بالدرجة الأولى في قضيتين أساسيتين، وهما قضيتان أكبر بكثير من الاقتصاد والتجارة.
القضية الأولى: هي حرية الملكية الفكرية الأمريكية، وهي فئة من الممتلكات التي تتضمن النتاج والإبداعات التي أنتجها أشخاص، وبذلوا في سبيلها جهداً كبيراً، وهي إبداعات غير ملموسة للعقل البشري، والملكية الفكرية بكافة أنواعها مثل: براءات الاختراع، والعلامات التجارية، وحقوق النشر، والأسرار التجارية، فالصين مثلاً تستخدم في أيامنا هذه أكثر من تسعين اختراعاً أمريكياً في مجالات التكنولوجيا والهايتك والصحة، وتجني مئات المليارات من الدولارات، ونحن نعرف بأن هناك عدداً كبيراً من الدول لا تعترف بالملكية الفكرية، على الرغم من أن موضوع الملكية الفكرية قد عرفتها روما القديمة، لكن المفهوم الحديث للملكية الفكرية قد تطور بشكل كبير في انكلترا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولم تصبح الملكية الفكرية منتشرة في معظم النظم القانونية في العالم حتى نهاية القرن 20.
القضية الثانية: هي قضية أمنية ولها علاقة وثيقة باستخدامات التكنولوجيا والهايتك السرية، وكذلك البرمجة الرقمية والذكاء الاصطناعي، ومثال على ذلك هواتف هواوي التي تنتجها الصين، والتي توجد فيها تقنيات مذهلة وحساسة تخيف الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى استخدام هاتف هواوي تطبيقات نظام الأندرويد الذي تستخدمه هواتف ووسائل اتصالات تصنعها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي يمكنها سرقة المعلومات والبيانات من هواتف أخرى جراء الاتصال به، وهذا في نظر الولايات المتحدة عملية خطيرة جداً لا تتناسب نهائياً مع منظومتها الأمنية، كما أن الصين تتعامل بعملتها المحلية اليوان بدلاً من الدولار الأمريكي، وهذا يسبب تضخماً مالياً، وعدم استقرار اقتصادي في العالم بشكل عام، وفي الولايات المتحدة بشكل خاص، حيث إن جميع عملات العالم مرتبطة بالدولار الأمريكي دون منازع.
من هنا ندرك حقيقة الخلافات البينية الصينية- الأمريكية، وهو بالتأكيد خلاف استراتيجي وليس خلافاً سياسياً أو اقتصادياً بشكل مباشر فقط، ولكن مع تفشي وباء كوفيد 19 (كورونا) أصبح وضع الولايات المتحدة الأمريكية مع جمهورية الصين الشعبية بمثابة: (نكون) أو (لا نكون)، ولهذا لا مفر من القيام بالحرب ضد الصين، لكنها لن تكون ككل الحروب السابقة التقليدية، بل ستكون حرباً انتقائية، وستقتصر على كل الأسلحة غير التقليدية باستثناء السلاح النووي، وذلك بهدف إخضاع الصين، وإجبارها على الجلوس على مائدة المفاوضات، وحسم كل الخلافات والمشكلات العالقة بين الدولتين العملاقين، كل ذلك من أجل وضع أسس جديدة لكيفية تقاسم مناطق النفوذ في العالم بعد جائحة وباء كوفيد 19 (كورونا) المستجد.
إن بنية الصراع الصامت بين جمهورية الصين الشعبية والولايات المتحدة الأمريكية تدفع أيضاً للبحث في أهمية ودور منظمة التجارة العالمية التي أنشئت في عام 1995، وهي واحدة من أصغر المنظمات العالمية عمراً، وهي نابعة من صلب الاتفاقيات العامة للتعرفات الجمركية والتجارة (الغات) التي أنشئت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من أن منظمة التجارة العالمية مازالت حديثة العهد، إلا أن النظام التجاري متعدد الأطراف هو الذي وضع في الأصل تحت اتفاقية (الغات) التي مضى عليها ما يقارب ستين عاماً، ونتيجة لوجود استراتيجيتين دوليتين في العالم، كما الاستراتيجية الاشتراكية التي تبنتها دول الاتحاد السوفييتي السابق والصين والعديد من دول العالم، فإن الجانب الآخر من العالم تبنى استراتيجية أيديولوجيا الرأسمالية الليبرالية، فكان تأسيس منظمة التجارة العالمية يمثل دون شك تطوراً حاسماً على الصعيد العالمي، وإذا كان مستقبل النظام العالمي ومصيره يعتمدان بدرجة كبيرة على نهاية الصراعات ونتائجها التي تترتب على الطريقة التي تحسم بشكل كبير التوترات العالمية، فإنه من المؤكد أن تلعب منظمة التجارة العالمية وشقيقاتها: (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي) دوراً مهماً في هذا التشكيل، لذلك ليس أمام البلدان النامية إلا أن تتفهم هذه المستجدات وطبيعتها وتستوعب تحدياتها، في الوقت نفسه عليها أن تستفيد من الفرص المتاحة.
إن لحدة الصراع الخفي بين الولايات المتحدة الأمريكية بعداً كبيراً، فعندما كان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرشّحاً للرئاسة في عام 2016، كان من أبرز شعاراته التي رفعها وهلل بها العمل على تصحيح العلاقة بين جمهورية الصين الشعبية والولايات المتحدة الأمريكية، معتقداً أن هذا التوجه سيعزز القوة الاقتصادية والتجارية للولايات المتحدة الأمريكية، كما سيعزز الرخاء والنمو الاقتصادي الذي وعد به الشعب الأمريكي، فقد كانت الصين خلال العقود الثلاثة الماضية، منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق في عام 1991، تستغل علاقات الشريك الاقتصادي المفضّل التي تمت مع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون بعد أن تم انتخابه لرئاسة الولايات المتحدة أول مرة في عام 1992، وكانت إلى حد كبير تقوم على مبدأ السياسة للولايات المتحدة الأمريكية، والاقتصاد لكم للصين، لكن العلاقة بين الاقتصاد والسياسة هي علاقة تكاملية ومتداخلة بشكل كبير لا يمكن الفصل بينهما، وأحدهما يؤثر على الآخر ايجاباً أو سلباً.
ومع مرور الوقت أصبحت علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بالصين علاقة متداخلة ومتشابكة يصعب فك جدائلها بالقص أو القطع كاتباع أسلوب الحرب العسكرية، فجمهورية الصين الشعبية ليس لديها أي وهم بقدرات الولايات المتحدة الأمريكية من الناحية العسكرية التي تتفوق عليها بأكثر من ثلاثة أضعاف في العدة والعتاد والسلاح الاستراتيجي الفتّاك، لذا لن تسعى الصين تحت أي ظرف كان أن تطرح أو تقوم بأي عمل من شأنه إسقاط الولايات المتحدة ومسحها من خريطة العالم، ولهذا فالمقارنة بين احتمال تفكك الولايات المتحدة الأمريكية كما تفكك الاتحاد السوفييتي السابق في أعقاب الحرب الباردة التي امتدت عشرات السنين، هي مقارنة سياسية بحتة، وتعتمد على التمني، وتنقصها الحجة العلمية والرؤية الاستراتيجية، وهذا ينطبق أيضاً على الاعتقاد بأن التعامل مع كوفيد 19 (كورونا) أثبت قوة ونجاعة الصين مقابل ضعف وهشاشة النظام الديمقراطي الذي تتبعه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
حتى هذا الاستنتاج هو استنتاج خاطئ لفرضية هي خطأ بالأصل، لأن التطور التاريخي هو تطور ديناميكي مرن وسلس، وليس حدياً متصلّباً، لكن كوفيد 19 (كورونا) قد وضع كل أنظمة العالم على المحك الحقيقي العملي، وفرض عليها المراجعة لكل سياساتها الاقتصادية والأمنية والاجتماعية وحتى الإنسانية لغرض التطور وليس إلى التراجع والتقهقر.