لا تضعْ سراجاً على قبركَ.. سأهتدي إليه برفيفِ فراشة!
لستُ حزيناً لأرثيكَ يا صديقي، فثقتي عالية بطاقةِ المجاز التي يكتنزها هذا الكون الجميل، الغافي على فراشات رموزه وإشاراته الباهية، ومن سوى الشّاعر جدير بفكّ أبجديّة هذا الإبهام الجميل في رُقيمِ الكينونة؟!. تلك الألغوزة الغزيرة الكثافة والألق، لتداخل الحضور والغياب، كنتَ تمارسها باقتدار وتفوّق علينا، وأنت بكامل زهوكَ المطريّ حين يتلبّسكَ غيمُ القصيدة. لتهرع الكلمات إليكَ مذعنةً، لتصوغ من دررها قلائدك الشعريّة المعروفة بحسن الصّياغة والسّبك. حين كانت تراوغك برهة الخلق متمنّعةً عن المجيء، كنت ترقصُها، وإذا أخفق رسيسُ بوحها في الوصول إلى الآخرين، كنتَ تهطلُها أو تطيرُها شارداً في تضاريس نصّ هذا الوجود الشّاهق والموجع الجمال بآن. فإحدى عادات الشاعر الأثيرة أن يغفو في سرير الضوء، مطمئنّاً لشوارد كلماته تبثّها رئات الغيب في جهات القلب الأربع. “تنامُ ملء جفونك عن شواردها.. ويسهر الخلق جرّاها ويختصم”. فسليل إمبراطوريّة “المتنبّي” الأنويّة لم يكن ليرضى بأقلّ من ذلك. لقد كان جدّك أكثر منّا جميعاً سلوكاً ونصّاً أيّها العزيز. لكن، مهلاً أيّها الأحبّة، ألا ترون بأنّ الشاعرَ يمكرُ بنا، لاهياً بتوجّساتنا، ممتحناً فينا طاقة المكاشفة. فقط، لنقرأ غفوته المغتبطة بربيعها الجديد!. صديق الرموز والإشارات العتيق حين يوغل في لعبة التّخفّي يتحوّل وقد تماهى بالدّور إلى خفقة جناح عائمة، تعبرُ سماء شرودنا. أصيخوا السمع من فضلكم قليلاً، ألا تسمعون هتملة الرّفيف المحوّم في فضاءات الحروف، تمتمة النّبع القادم من “ذاكرة التراب” تغرقنا برذاذها المنعش. ذاك الديوان الشّعري المميّز الذي استحقّ عليه الفوز بـ جائزة “سعاد الصّباح” الأولى للشعر في نهاية تسعينيّات القرن الماضي. مدّوا أكفّكم أيّها الأصدقاء، وتيمّموا بطهر الوجيب. أقسم بأنّ الشاعرَ توارى قصداً في برزخه ليمارس طقوسَ كتابة نصوصه الجديدة هناك عالياً، في صومعة التّيه على مرأى من الكينونة الباسقة. حدّقوا في انتباهة الزهرة، تتسلّق شرفة الضّوء. سترون الشاعر متبتّلاً، يكتبُ نصوص غيابه المورق لأوّل مرّة، بلا أيّ قلق. يجارينا في لعبة المحو لتكتملَ معادلة حضوره المأمول في الغياب. يتفيّأ عطر وردة في أعلى الريح، ظلّ قطرة ماءٍ سقطتْ سهواً من فم الجدولٍ التّائه بين الصّخور. هو يسرد علينا خدعة البهاء وحسب. سليل السنديان لا يأبه للغة الرّثاء القبليّة. يكفيه لفتة القلب العالية وهي تومئ مرحّبة بعودة الابن المشاغب إلى حضن أمّه الطبيعة، حيث يرقد بهيّاً ساخراً كعادته من طقوس الكهانة هذه. أعرف يا صديقي بأنّك كنت تستعجل غيابَك منذ زمن طويل، رغم حضورك الكثيف في ذاكرة الأجيال، طلابكَ على مدى أكثر من ربع قرن. وزواياك الصّحفيّة المتميّزة في جريدة الوحدة لأكثر من عقدٍ من الزّمن تشهد على ذلك أيضاً. كنتَ تمارس غروبَكَ بطريقتك الخّاصّة، منذ اختفى رشحُ القصائد في جراركَ. ربّما بقرارٍ منك، وربّما سرقتكَ الضغوط الحياتيّة التي اخترتَ الوقوع في فخاخها بطواعية مذهلة، من يدري؟!. كنتَ تعيد رتقَ شبكة الوهم الجميل بسنّارة المكابرة، وكلّما سألتكَ عن جديدك الشّعري، تجيبني بضبابيّة غريبة بأنّكَ ما زلتَ تنقّحها على مدى سنوات، وبأنّك غير راضٍ عنها حتى الآن!. وكنتُ أصدّق ذلك. ومن غير الشاعر جدير بالتّصديق؟!. ولكن هل قلتَ حقّاً، كلّ ما لديكَ أيّها العزيز؟. كم كنتَ ماهراً في خلق أعدائك الوهميّين، بموهبة دون كيشوتيٍّ عظيم. وما الضّير في ذلك؟ ألا يرقد في داخل كلّ شاعر منّا دوكيخوت محتجب ينتظر فرصته للظهور، أو نبيّ خجول، يملي طقوسه على مملكة الفراغ؟ أحلّفك بوصايا أمّنا/ السنديانة التي ظلّلت طفولتنا وأحلامنا بوشاحها المبارك، الموشّى بقبل الشمس، والتي رفضت إلا أن تستعيدك إلى حضن تربتها طفلاً كبيراً. ألا تهادن هناك حيث أنت، راقداً في الغموض الكريم. وأن تحجز لي مكاناً في المقعد نفسه الذي تقاسمناه سويّاً في تلك المرحلة الغاربة من شفق الطفولة الماطر، لنعلن العصيان على كلّ ما يهدّد سموَّ الكائن. مندفعين بقوّة الحلم وحكمة أسلافنا الكبار: جنّة بالذّلِ لا نرضى بها وجهنّم بالعزّ أفضل منزل.
ابتسم أيّها الغالي، فالشّعوذات لا تليق بمن كان ربيب السنديان والشّعر. أتذكّرُ ذاك اليوم الموجع، حين قلتَ لي بعد خروجكَ من نفقِ العلاج الأوّلي وانتصارك على المرض وهزيمته على مدى أكثر من سنتين: الآن سنرتشفُ الحياة بقوّة، سنستثمرها في الكتابة المختلفة حتى الحدود القصوى، وسنستعيد معاقرة خمرة الغروب وصديقنا البحر ثانية، بعد طول غياب. لكنّكَ سرعان ما تناسيتَ قصداً كلّ ذلك. أعرف أنّ للشّاعر شطحاته التي لا يعرف مآلها حتى هو ذاته، فكيف بالآخرين؟. لكنّ المرض الجبان الذي كان يتربّص بكَ في كلّ الزّوايا، لم يسمح لك بهزيمته، ولا بجندلته بالضّربة القاضية، كما كنتَ تفعل دوماً في حروبِكَ الكلاميّة وزواياك الصّحفيّة. لقد كمن لكَ في منعطف الكلام، متموّهاً بمجازات الشّعر وميسان خصر صبيّة هيفاء، يتلاعبُ النّسيم بجمائرها المشعّة. تزيّنُ صورتُها غلافَ علبِ تبغِكَ، أقصدُ غذاءك المفضّل في الفترة الأخيرة: “اختمااااار”. وكم كان يرديكَ دلعُ الأنثى يا صديقي!. أتذكّر ذاك الصّباحَ المؤرّخ بـ 23 /5 /2017 م المنكّه برائحة سخريّتك المحبّبة. تلك السّخرية الذكيّة التي يشهد لك بها كلّ من عرفك، مشيداً بسرعة بداهتك، حين اتّصلت بي مبكّراً، هاتفاً بصباح الخير، ومعتذراً عن طول الرسالة التي كنتَ تظنّ بأنّها وصلتني، وبأنّ الوقت يسرقنا، دون أن نلتقي. أمّا وقد وصلتني بعد وقتٍ قصير فإنّني أنشرها للمرّة الثانية بكامل الوجع: (في المخبر وقبل سحب الدّم ثمّ تحليله، حدّقت الممرضة في وجهي، ثمّ سألتني: ألست فلاناً؟ أجبتُ: بلى، فسلّمتْ بحفاوة شديدة، وقالت: أنا “أسماء” طالبتُكَ منذ عشرين سنة. ثمّ أردفتْ: كنت أتمنّى أن تعيش لتدرّس ولدي “علي” وأجهشتْ بالبكاء، وبصوتٍ مخنوق سألتْ: ما التّحاليل المطلوبة؟ قلت: الأفعال والأسماء والحروف، وأردفت: أظنُّ دمي خالياً من الأفعال النّاقصة والمتعدّية والأحرف النّاصبة، وأمّا الأسماء فهي عصيّة على التّحليل/ صباح بسمالخ الطافحة بالبهاء يا صديقي).
وحين فاجأتك كريمتُك “سعاد” بتساؤلها البريء: (أبي في غرفة الإنعاش من الذي سيوقظك؟ قلتَ لها، ضاحكاً: يا ابنتي، هناك احتمالان: إمّا الطّبيب وإمّا أنكر ونكير). أمّا في 5 /11 /2017 م والوحدة تحيط بكَ من كلّ الجوانب، فقد بعثتَ لي في السّاعة السابعة مساء وثلاث دقائق برسالةٍ عالية الشّجن والقلق. رسالة فاضتْ مياهها سيولاً، على ضفّتي المسافة الطويلة بين دمشق وعين الشرقيّة، تقول: (المطرُ يهطلُ غزيراً ويتعالى نشيجُ المزاريب فأتذكّر بيتنا الطّيني العتيق الذي تعرفه جيّداً. كنتُ أخاف المطر وأحسّ بأنّ البيت عرضة للانهيار في أيّ وقت وأحسُّ بالمزاريب وكأنّها تبكي. تحيّاتي لكَ أيّها الطّافح بالشعر والحبّ والحياة، أيّها الذّهب العتيق).
تحيّة لروح الصديق الغالي الشاعر عيسى عزيز إسماعيل في غفوتها الباذخة، بعد مرور سنة على الغياب .
أوس أحمد أسعد