رياض الصالح الحسين يعزف نشيد الخلود
دعوت الأصدقاء كي يباركوا زواجي، وامتلأ البيت بهم.. كنّا طلبة الجامعة ومن يلوذ بهم، من مثقفي تلك المرحلة، ومن الذين يجالسوني في مقهى القصر، هذا المقهى كان يضم الفنانين والأدباء، ومن يحذو حذوهم، ونحن الكتّاب الذين نناقش وتعلو أصواتنا، وندقّ على الطاولة، إلى أن يأتي أبو الخير عامل المقهى فيطلب منا أن نهدّئ قليلاً.
اكتمل الشبان في البيت، ثلاثة عشر، أو خمسة عشر، لا أذكر، المهم كان العدد كبيراً، بعضهم يكتب القصة وآخر يقرض الشعر، وبعضهم في الدراسات المعمقة، وكنا ننظر إلى الذين نشروا في الجرائد أو المجلات، مقالة، أو مقالتين، يحملونها في جيوبهم الداخلية، بعد أن يلصقوها بالنايلون.
جلس رياض مع الجالسين وبدأنا الطعام، ثم تلا ذلك أغنية من الأغاني الحلبية، ردّدناها جميعاً، بعضنا بصوت قوي وبعضنا بصوت ضعيف، وكان رياض على طرف الصوفة يكتب، ونظراً لأنه لم يكن يسمع شيئاً، فلم يأبه للموضوع، وعندما انتهى من الكتابة، رفع يده ضاحكاً، وقال بلغته التي تطحن حجراً: يا جماعة، أريد أن أسمعكم شعراً! فقلنا جميعاً: سمع يا شباب، إنّ رياض يريد أن يقول شعراً. وساد صمت على الجميع كأنّ على رؤوسهم الطير – كما يقولون – وألقى رياض، وليته ما ألقى، فقد راح يصف جلستنا، ويصف بيتي، ويصف حالته، وكيف أنه ترك سمراً، ويصف حالتها وحالته، وكيف تركها وكأنه ترك روحه على قارعة الطريق. وفي الختام، قال ما ملخصه، إنًني أحبّ زوجتي في هذا البيت، وهو لا يجد مكاناً يلوذ إليه سوى أسطحة المنازل. دهشت من قصيدته، فكيف يمكن أن يكتب شعراً كهذا، ولولا الحياء لتصرفت بشكل غير لائق. ضحك الجميع وعادوا إلى الأغاني الحلبية.
كنت في السنة الثالثة في كلية الآداب، قسم اللغة العربية، أحفظ غيباً المرفوعات والمنصوبات والمجرورات، والشعر العربي منذ بدء عثورهم على الشعر إلى ساعة إعداد هذا الموضوع، فقد كلّفت في تلك السنة أن أكون مسؤولاً عن النوط الجامعية للسنة الثالثة، وتابعت في السنة الرابعة، إلى أن تخرجت، فكان عليّ أن أتردّد على مؤسسة الأمالي الجامعية لأطبع “النوط” للزملاء، وتعرّفت على محمّد جورج رئيس المؤسسة، وكذلك تعرّفت على رياض الصالح الحسين القادم من قرية مارع، ويسكن في أطراف المدينة، وعرفت فيما بعد أنه يكتب الشعر.. ليس الشعر العمودي ولا الموزون، إنه يكتب قصيدة النثر، ولم نكن قد أخذناها حتى تلك الأيام، وسوف يؤجل إعطاءها لنا، حتى نهاية السنة الرابعة، في كتاب الدكتور عمر الدقاق (فنون الأدب المعاصر)، ولم يعطونا إياها، وإنما اكتفوا بذكر أسماء بعض الذين كتبوا فيها وهم: محمد الماغوط، وممدوح عدوان.
كنت التقي بعامل السحب آنذاك، رياض، وأنتظر كي يسحب لي “النوط” وأتسلى معه، كان عاملاً مياوماً، أي تدفع له أجرته كلّ يوم. وعند المساء كنت أمرّ على مطعم “الشباب”، فلمحته جالساً، فجلست معه، على صحن حمص، وآخر لبنة، موضوعين على الطاولة، وطلبت صحن بطاطا، وبدأ النقاش.
كان رياض يتعلّم صنعة الشعر ودائماً كان معه كتب لشعراء معروفين؛ وعندما كان الحال يضيق به وتصعب الأمور عليه، كان يمسك قلماً ويروح يدوّن ما يعتمل في صدره؛ وعند ذلك عرفت أن رياضاً كان لا يسمع، كنت أعرف أن نطقه صعب، مثله مثل أي إنسان لا يستطيع التعبير إلا بصعوبة، فأدركت أن هذا الطفل الجميل الصابر صبر أيوب النبي، ما هو إلا عبق الياسمين.
عرفت فيما بعد أنه لم يتم تعليمه.. تعلّم إلى الصف التاسع، وأن أباه كان متطوعاً في الجيش، فكانت الأسرة تنتقل معه من الجبهة إلى دمشق، ومن ثم إلى حلب، حيث استوطن رياض على أطراف المدينة في حي الصاخور.
كان يعمل معه في المؤسسة صباحاً، وعندما كان يجد فرصة يجلس في مقهى القصر، ومساءً في مطعم الشباب لصاحبه حنا كعده، يتعلّم، كلما سنحت الفرصة له، عمود الشعر، وتفعيلاته. نظم رياض بعض القصائد على الموزون والمقفى، ولكنه لم ينجح، كان يحس بأن الشعر ينفجر من الداخل، وأنّ مستقبل الشعر سيكون لقصيدة النثر، وراح يستمع من الأصدقاء شعرهم الذي يكتبونه، ويعطونه الدواوين لشعراء كبار، وعلى ذلك فقد تكوّنت ذائقة رياض الأدبية، وصار يسمعنا بصوته القصائد النثرية التي يكتبها.. لم تكن تدهشنا، ولكننا تريثنا في الحكم عليها، كان يفرح عندما يكتب قصيدة، ويفرح أكثر عند قراءته لنا على الطاولة، فكان يقرأ بابلو نيرودا، وسان جون بيرس، وغوغول، وجلجاميش، والعهد القديم، كنا نفرح عندما يقول: اسمعوا، اليوم كتبت قصيدة، ويلقيها علينا بلغته المكسرة.
ازدادت تجربته غنى عندما أحبّ سمراً، فقد كان يدور بها في المدينة، وعلى الأسطحة، يجلسان في الحديقة العامّة، وفي مداخل البنايات، يتكلمان عن الحبّ، وعن بيت له سقف وحيطان أربعة، يأويان إليه عندما يحلّ الفجر على المدينة.. كتب لها أجمل القصائد، وكان يرمز لها بالحرف “س”. وبعد ذلك قرر أن يترك العمل، قائلاً ببساطة: نحن شعراء، والشعراء يجب أن لا يعملوا.. كذا وكذا في أخت المؤسسة، على أخت الأمالي الجامعية، وهكذا ترك العمل واتجه إلى دمشق!!
أتيح لرياض أن يعمل في منظمة التحرير الفلسطينية، وأن يتعرف على الشعراء، وأن يعرف الحبّ على أصوله، على يد أنثى عراقية، وهنا تبلورت قصيدته، وأصبح يكتب وينشر دواوين، وقد كان يرعاه محمد كامل الخطيب وبندر عبد الحميد.
في العام 1982، عصر يوم 21 تشرين الأوّل، توفي الشاعر رياض الصالح الحسين، إثر علاج خاطئ، ونقل جثمانه إلى حلب، ومن ثم إلى إعزاز ليدفن هناك، حيث الوحدة والصمت.
ولد رياض الصالح الحسين في آذار 1954.. صحفي وشاعر – أصم – كتب: “خراب الدورة الدموية”، وزارة الثقافة، دمشق 1979 – “أساطير يومية”، وزارة الثقافة، دمشق 1980 – “بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس”، دار الجرمق، دمشق 1982. وبعد وفاته طبع ديوانه “وعل في الغابة”، وزارة الثقافة، 1982.
فيصل خرتش