دراساتصحيفة البعث

هكذا يُعاد إخراج التاريخ….

إعداد: سمر سامي السمارة

سيحتفل المجتمع الدولي قريبا بالذكرى الخامسة والسبعين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، إذ خاضت ستون دولة حرباً غير اعتيادية أسفرت عن مقتل 50 مليون شخص. وكان أكثر من نصفهم من الاتحاد السوفييتي، الذي برز كمعارض رئيسي لألمانيا النازية وحلفائها السريين وغير السريين أثناء محاولتهم غزو “الشرق”.

صراع اُرتكبت فيه أشنع الجرائم ضد الإنسانية، وتميز بعمليات قتل ممنهجة لملايين البشر على أيدي النازيين، كان ضحيتها المدنيون من جميع الدول الأوروبية، وأسرى الحرب السوفييت وكل أولئك الذين وسمتهم الدعاية النازية بأنهم “دون البشر”.

كانت الحرب العالمية الثانية، التي أطلق في الاتحاد السوفييتي عليها اسم “الحرب  الوطنية العظمى”، أكبر معلم في التاريخ السوفييتي والروسي، محنة لا مثيل لها  بالنسبة لجميع سكان الاتحاد السوفييتي. واليوم أصبحت هذه الحرب رمزاً مهماً يمكن أن يوحد غالبية الناس، ويشجعهم على الدفاع من أجل السلام العالمي ومكافحة اللامساواة العرقية ورهاب الأجانب والعودة إلى النازية.

لذلك فلا غرابة، من وجود نشاط قوي داخل الدوائر الرجعية لتشويه ذكريات الحرب العالمية الثانية وعواقبها المأساوية. ومن المثير للقلق حقاً أن تكون الأدوات الرئيسية المستخدمة لذلك، هي إعادة كتابة التاريخ وتدمير النصب التذكارية التي أقيمت لتكريم أولئك الذين ضحوا بحياتهم لتحرير أوروبا من بلاء النازية.

حظيت مراجعة تاريخ الحرب العالمية الثانية مؤخراً بتشجيع من العديد من الدول الغربية. لكن للوهلة الأولى، لا يبدو أن هناك خطأ في إعادة النظر والتدقيق في المعلومات المتعلقة بأي نزاعات، خاصة النزاعات المسلحة التي حدثت في الماضي. ومع ذلك، يرى مراقبون أن ازدياد عدد الدراسات العلمية الزائفة حول الحرب العالمية الثانية في الوقت الحاضر، لم يكن مدفوعاً برغبة في الوصول إلى الحقيقة. بل إنه مدفوع بأوامر من النخب الحاكمة لعدد من البلدان لنشر معلومات مضللة وكاذبة. وكل ذلك بهدف التقليل من أهمية الدور الذي لعبه الاتحاد السوفييتي في هزيمة النازية، ووضع اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية (سابقا) في نفس الكفة مع ألمانيا النازية، واعتبارهما مسؤولان بالتساوي عن المأساة. فعلى سبيل المثال، كانت محاولات التقليل المتعمد للدور البطولي للاتحاد السوفييتي في تحرير معسكر أوشفيتز، واضحة في التقارير التي نشرتها المجلة الألمانية دير شبيغل، ووسائل الإعلام الأمريكية الأوروبية مثل “بوليتيكو”، وحتى في خطابات نائب رئيس الولايات المتحدة، مايك بنس. بعد قيادة هؤلاء المؤيدين للتاريخ المزيف، قررت السفارة الأمريكية في الدانمارك أن تنسب تحرير “أوشفيتز” للجنود الأمريكيين على الرغم من أن ذلك غير صحيح على الإطلاق!.

كتب المحلل التشيكي “مارتن كولر” مقالاً مفصلاً علق فيه على هذه التصريحات المضللة والكاذبة التي أدلى بها أعضاء دوائر النخبة في الاتحاد الأوروبي، وقدم حقائق وضح من خلالها سبب عدم  مكافحة إدارة الولايات المتحدة وبريطانيا الأكاذيب التي يتم نشرها حول الحرب العالمية الثانية، أولاً وقبل كل شيء، عن “أوشفيتز”. وفي ظل هذه البيئة، التي يتعرض فيها التاريخ للتشويه بشكل متعمد، فمن غير المفاجئ أن تُمجد النازية بشكل علني في عدد من البلدان. ففي دول البلطيق، أصبحت مسيرات النازيين الجدد سائدة، وفي أوكرانيا، تتم الإشادة بـ ستيبان بانديرا المعروف بتعاطفه مع النازية، كما يتم الثناء على فرق الموت التابعة لمنظمة القوميين الأوكران وجيش التمرد الأوكراني. بالذكرى السنوية الخامسة والسبعين للانتصار على النازية “ستتم مكافأة المحاربين القدامى الذين قاتلوا في الجيش الأحمر، وأولئك الذين كانوا جزءاً من جيش التمرد الأوكراني المحظور في الاتحاد الروسي، على حد سواء. على الرغم من أن فرق الموت التابعة لمنظمة القوميين الأوكران كانت مسؤولة عن العديد من الجرائم بما في ذلك مذبحة البولنديين في فولينيا وغاليسيا الشرقية في العام 1943، ومع ذلك لايتم ردع أوكرانيا أو الاتحاد الأوروبي. إذ استخدموا كافة الوسائل الممكنة للإبادة الجماعية، فقد قتل النازيون الألمان ومنظمة القوميين الأوكرانيين ما يزيد على 1473575 مدنياً في سبع مناطق غربية من أوكرانيا، قال عالم السياسة والأستاذ  الجامعي التشيكي الشهير أوسكار كريتشي: إن مراجعة دعائية فريدة للأحداث التي حصلت منذ 75 عاماً يعاد إخراجها مؤخراً. إذ فضح بشكل مقنع النظريات البولندية الجديدة حول التاريخ الذي يحتوي على أخطاء في التسلسل الزمني، وفشل في تذكر السياق في حالات معينة، وتجاهل للأحداث “غير الملائمة” والروابط المنطقية. في المقام الأول، أنقذ الجيش الأحمر وبطولة الشعب السوفييتي أوروبا من أهوال النازية. ليست هذه كلمات جوفاء، إنها الحقيقة، التي يدل عليها قبور 27 مليون سوفييتي. ليس سراً، أن أساس هذه الحملة التي ترمي لإعادة كتابة التاريخ، هو بلا شك الخطط العسكرية والجيوسياسية للنخبة السياسية الحالية في الولايات المتحدة، التي تحاول بكل وسيلة متاحة تقويض مكانة ونفوذ روسيا العالمي وحرمانها من حقها الأخلاقي باعتبارها قوة عظمى. من الواضح أن مشاعر “روسيا فوبيا” التي تعرب عنها أوساط السياسيين البولنديين والبلطيقيين والأوكرانيين تخدم مصالح المؤسسة السياسية الأمريكية. وفي هذا الشأن يقول نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف: إن مثل هذه المحاولات التي قامت بها الولايات المتحدة لإعادة كتابة تاريخ الحرب العالمية الثانية لصالحها، من المؤكد أنها غير مقبولة اليوم، لا شك في أن النقاش حول الحرب العالمية الثانية، في نهاية المطاف، هو نقاش حول المواقف تجاه روسيا. وبعض السياسيين الأوروبيين مقتنعين أن الامتثال لمصطلح “روسيا فوبيا”، الذي يستخدم بصفة حثيثة لغسل الأدمغة، خاصة في أوروبا الشرقية، هو بالتأكيد ثمن مقبول يُدفع مقابل الحفاظ على الوحدة داخل الاتحاد الأوروبي، الكيان الذي نشأ بالمصادفة في الحرب العالمية الثانية. بعد انتهاء الصراع بهزيمة كاملة للنازية، أجبرت قوى التدمير الذاتي داخل أوروبا التي أدت إلى الكارثة في النصف الأول من القرن العشرين، السياسيين والمثقفين أصحاب الرؤية بعيدة المدى للتفكير بما يمكن أن يمنع مثل هذه الأزمات. صحيح أنه تتم مراجعة أي حدث في التاريخ بمرور الوقت، ويتم فتح الأرشيف وتظهر وجهات نظر مختلفة حوله، إلا أن هذه عملية طبيعية تحدث في كل مكان، ولكن المشكلة تكمن في محاولة تسيس التاريخ. يمكن أن تؤدي المناقشات حول التاريخ لخلق صداقات أو صدامات جديدة، لكن من الضرورة بمكان أن نتذكر أنه إذا كان من الممكن إنكار الحقائق التاريخية أو تزييفها أو تشويهها، فإن خطر تكرار مثل هذه الأحداث قابل للزيادة.