“ست ساعات”.. حكاية الشهيد الذي زرع ساقه شجرة في حلب
أدرك الكثير من الكتّاب والأدباء في سورية أن التأريخ لفصول الحرب التي تعرّضت لها البلاد خلال السنوات العشر الماضية سيكون أولوية لكلّ واحد منهم، سواء في الشعر أو القصة أو الرواية، ذلك أن القيم والمسلّمات التي تبدّلت، وشهد بعضها انقلاباً جذرياً، تفرض الوقوف عندها والتبصّر في مآلاتها، ومن بينها بالتأكيد قيمة الشهادة والشهداء وافتداء الوطن التي نحتفي بذكراها في مثل هذا اليوم. ففيما كان البعض يخون ذرات التراب والماء والهواء التي عايشها ويدعو قوى الطغيان لضرب البلاد ودكّ مدنها وقراها، بل ويموت في سبيل ذلك العمه، كان ثمّة من يمدّ شريانه كي يتخضّب التراب ويتقدّس الماء ويتعطّر الهواء، إنه الجندي العربي السوري الذي سطّر ملاحم لا تُنسى، تحتاج عشرات المدونات والكتب لتحيط بها وتؤرّخ لأمثولاتها.
في روايتها “ست ساعات” تعي الأديبة لمى عباس أهمية الكتابة والإبداع في هذا الجانب، حيث الزمن الصعب المثخن بالجراح، المتخم بالموت والدماء والخراب، وكيف يكون الإنسان السوري جديراً بالحياة وهو يتحدّى قسوة هذه الأيام ويقهرها بإيمانه وصبره وعنفوانه وجهره بأن سورية التي تكالب عليها الغريب والقريب لا بد أن تقوم كعنقاء الأساطير وسط هذا الرماد. كما تقدّم عباس في روايتها نبوءة تجلّت في روح كاتبة حفرت بأصابعها وأظافرها على الصخر كي تولد هذه الحكاية.. حكاية الفقراء الشهداء وقد هاموا عشقاً وألماً وجنوناً وهم يرون وجه الوطن ينزف وينزف، فامتطوا خيول دمائهم ليجترحوا النصر القادم، وكي يبقى وجه الوطن مضيئاً شامخاً يطاول عنان السماء.
“ست ساعات” هي ذاكرة الحرب التي أرخت بظلالها الكئيبة على أرواح السوريين، واعتصرت قلوب من يعرف قداسة هذه الأرض ومقامها السامي، وطهر ترابها الذي عرف وقع خطوات الأنبياء والرسل والقديسين، كما أنصت بخشوع لخطوات الشهداء وهم يصعدون في مواكبهم المتقاطرة ويعرجون نجوماً وكواكب في فضاء السماوات السبع، تقول عباس: “لا تقلق أيها الجندي فالموت آت آتٍ، شرف الشهادة ينتظرك هناك، هناك في أعالي القمم صوب سماء ثامنة لم تُخلق لسواكم، فيها سدرة الملتقى مع من أحببتم ولم يمهلكم الزمن كي تقاسموهم كسرة من أمل، ولربما لم تتذوقوا معهم بعد طعم السعادة، أو تستنشقوا من طِيبهم رائحة الهناء، مع أولادكم الذين لم تعرفوا لون أعينهم، أو مقاسات ثيابهم، هل ينطقون الحروف بشكل سليم، أم مازالوا يتعثرون في خطواتهم باتجاه صورة مبروظة في صدر الحائط، يؤشرون عليها بأصابع من دمع، وأكفّ من حنين.. بابا.. بابا”.
تنتقل لمى عباس في تجربتها الروائية هذه من الشعر إلى الكتابة السردية، بعد ديوانها الأول “صهيل الغمام”، وكان ظاهراً في “ست ساعات” أنها مزجت بين الشعر والسرد حتى بدت لغة الرواية لغة شعرية في كثير من تفاصيلها ومفاصلها رغم واقعية الأحداث التي تتحدث عن الحرب وويلاتها وتداعياتها على الأسرة السورية عبر عائلة “علاء” الضابط الذي يُستشهد في الحرب وزوجته مريم التي تموت في نهاية الرواية بعد إعلان انتصار حلب. كما توثق عباس لأحداث شهدتها سورية في مراحل مختلفة خلال سنوات الحرب، منها حصار مشفى الكندي بحلب، وعدوان الجماعات المسلحة على مدينة عدرا العمالية وصولاً إلى تفجيرات جبلة التي أودت بحياة سمر ابنة بطلة الرواية مريم.
على أن الأكثر إدهاشاً هو تعظيم قيمة الشهادة والفداء التي أشرنا إليها آنفاً، وكانت سمة دالة في وعي الكاتبة بأنه ينبغي إعلاء هذه القيمة أكثر وأكثر لأنها كانت بحق خلال الحرب الأخيرة معيار الانتماء الحقيقي للوطن، فكم من جندي وعد حبيبته بهدية وعاد إليها مكفناً بعلم البلاد، وكم من جريح زرع طرفاً من أطرافه في مدن دافع عنها حتى آخر شهقة من نزفه!. ولا تكتفي الكاتبة بذلك بل سنرى أن مريم وعلاء وسامر وريان وسمر ورؤى، تحول كلّ منهم إلى قصة وربما غصّة، ستبذرها مريم بين “دفن شهيد واستقبال وليد جديد”، لتروي حكايات أصدقاء وأحبة وأبناء استُشهدوا تاركين وراءهم أطفالاً بعمر الزهور، وجرحى بقدمين مبتورتين وذراعين ما عادتا تقويان على ضمّ الأب أو الأم أو الابن، عن ساق فقدها مقاتل ليزرعها شجرة في حلب، تقول الكاتبة: “تبادلا أطراف الحديث عن أصدقائهم الذين استشهدوا بشرف وكبرياء، تاركين وراءهم أطفالاً بعمر الزهور، إيه.. سيرى عماد ابنته بعينين سليمتين، وسيضمها بيديه الكاملتين أيضاً.. وسيضحك لها وسيلهيها بحكاياته عن ساقه التي قُطعت، وستعتاد عليه أباً حنوناً عطوفاً، كبير القلب ولكن بساق واحدة، وإن سألها أحد الأطفال أين هي ساق والدها ستقول له إنه زرعها شجرة في حلب”!.
“ست ساعات” رجفةُ ألم في قلب أم أفجعها فقدان ابنها الشهيد، وغصّة مقاتل عاد من الحرب على عكازين أو كرسي متحرك، حلم شهيد حيّ يتعطّش لرؤية بشرى نجاح وحيدته في مدرستها بعينيه اللتين أطفأتهما شظية غادرة، حكايات آلاف آلاف الشهداء الصديقين الذين عشقوا الوطن حدّ الذوبان في ترابه.
عمر جمعة