تحقيقات

عيد الشهداء في السويداء.. يوم وطني لتخليد ذكرهم و تكريس قيم الشهادة

لم تكن ساعات الصباح الأولى لهذا اليوم كغيرها من الساعات، فعلى أفراد أسرة الشهيد وسام النهوض باكراُ، وتجهيز أكاليل الورود، ورود مختلفة الألوان والأشكال غمرتها أغصان السرو والزيتون، يحرص أبناء الأسرة على ترتيبها بإتقان، حيث ستقابل روح الشهيد في يوم عيده العزة والكبرياء، وبعيداً عن ضجيج الخطابات الرسمية، تحتفل أسرة الشهيد وسام مع باقي أسر شهداء قرية مفعلة بعيد الشهداء، يتبادلون التهاني وباقات الورود، وقد جمعهم هذا اليوم بطابعه الخاص وقداسته بالنسبة لهم.

عيد الوطن
ولعيد الشهداء في محافظة السويداء طابع خاص، فأول ما يستقبلك بمدخل كل قرية مشهد شامخ على جانب الطريق يحرس دماء طاهرة لأحد الشهداء لحظة وصولك، ويودعك على الجانب الآخر من الطريق ذاته مشهد لشهيد أخر ترك لأبناء الوطن أمانة صيانة العهد للدماء الزكية التي غسلت زماننا من قذارة الخونة والمتآمرين، وكل قرية وبلدة، وهي تستقبل عيد الشهداء، تتزين بأبهى حلة لها، حيث تتفتح الورود، وتبتسم الرياض، وتعلو الزغاريد، وتتراقص أغصان الغار والزيتون، فيتحول عيد الشهداء إلى عيد للوطن، وأفضل وصف لعرس الشهيد في محافظة السويداء ذلك الذي قدمته الباحثة الفرنسية بريجيت عزام عندما قالت: إن من أعظم المشاهد التي لفتت انتباهي تشييع الشهداء في السويداء، حيث شاركت في أكثر من موقف، ولاحظت كيف تحوّل يوم العزاء إلى يوم عرس، فالرجال يغنّون ويهتفون هتافات وطنية، والنساء تزغرد، وقالت: إن أكثر صورة أثرت فيّ ولن أنساها أبداً دموع امرأة تزغرد فوق نعش ابنها، ومن قصص البطولة والتضحية التي نسجها شباب الوطن التي يتناقلها أبناؤه نعلم أنه لا وجود لخوف في قلوب الأبطال لأنهم يؤمنون برسالتهم، وبشعبهم، وبحقهم بالعيش بكرامة، أو الموت دون ذلك، ولأنهم يعلمون أن طريق الخلاص والقضاء على المؤامرات التي تحاك للوطن لابد أن تعمّد بالدماء والبطولات، فعاهدوا الله والوطن أن يدافعوا عن وطنهم وكرامتهم وعزتهم وسيادتهم، وألا يبخلوا بدمائهم وأرواحهم حتى يتحقق النصر، فكانت الشهادة هدفهم الأسمى، لأنها الطريق الوحيد للوصول للنصر وقهر الأعداء، فكانوا أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر، ونسخوا أسماءهم في سجل الخالدين، وتتغنى ببطولاتهم الأجيال القادمة، فكان عيد الشهداء كأعراس التأبين أعياداً وطنية بامتياز.

قيم المحبة
وحدها أم كل شهيد تعرف ما تعنيه الشهادة من بذل وتضحية وعطاء، فهي من قدمت فلذات كبدها قرابين على مذبح الوطن بعد أن غرست فيهم محبته، وروح الشجاعة والإقدام، فزفتهم حين طلبهم الواجب الوطني في عرس الشهادة بكل فخر واعتزاز فداء للوطن ليبقى حراً آمناً مستقراً.
ما إن تزورها وتصافح يدها حتى تشعر أنك أمام قامة سنديان شامخة، كيف لا وهي خنساء الجبل ندى عامر، أم الشهداء: فاروق وهشام وهاشم الداهوك، تقول وقد قدمت أبناءها الثلاثة شهداء كرمى تراب الوطن وعزته: “إن الشهادة مصدر فخر واعتزاز، فكيف وأنا عندي ثلاثة شهداء، صحيح الابن غال ويعادل الروح، لكن الوطن أغلى من الروح، فمن ليس لديه وطن ليس لديه عرض وشرف وبيت، مضيفة: بشهادتهم زففتهم عرساناً للوطن وترابه لكل العمر لا لساعة، كنت قد انتظرتهم ليأتوا وأفرح بهم، لكنهم أتوني شهداء ودمهم ممزوج بتراب الوطن الغالي، فاستقبلتهم بفرحة وغصة وألم كبير، وأقيمت لهم أعراس وطنية، وجل ما أتمناه وأدعو له ألا تذهب دماؤهم هدراً، وأن تنتصر سورية وتعود كما كانت.

نداء الياسمين
لقاؤنا بأسر الشهداء في محافظة السويداء يحمل عناوين كثيرة في الوطنية والفداء والتضحية، فقد رسمت عوائل الشهداء أجمل صور التضحية والبطولة والشجاعة عندما وقفت الأم تزغرد فوق نعش ابنها الشهيد، وتزفه عريساً للوطن، وعندما غنى الأب أغنية الجبل المعروفة: (بالروح نفدي وطنا.. وتربة وطنا ما نبيعا بالذهب)، وهاهو والد الشهيد وسام الذي استشهد دفاعاً عن أمن الوطن واستقراره يقول: هنئوني بعرس البطل ولا تعزوني، هكذا أراد الشهيد وهكذا سنفعل، وقال: إن الشهيد قد اتصل بي قبل استشهاده بيومين وأبلغني أنه ذاهب ليقدم روحه ودمه في سبيل أمن واستقرار الوطن، مجسّداً معنى التضحية والفداء، وقيم الشهادة ومعانيها التي تربى عليها، وليس عجباً أن تقدم أسرة واحدة أكثر من شهيد، وليس مستغرباً أن تبقى أمهم صلبة متماسكة، معلنة استعدادها لتقديم المزيد من أبنائها فداء للوطن، كما فعلت أمنا /أم وليد زاد الخير/التي التقيناها في رحاب الشهادة ولم تجف دموعها بعد على استشهاد اثنين من أبنائها اغتالتهما يد الغدر أثناء تأديتهما لواجبهما الوطني في الدفاع عن أمن الوطن وكرامته.
الياسمين الذي استقبلنا في باب داره برائحته العطرة وشذاه الفواح أخبرنا قصة حب شهيدنا البطل هيثم وائل العبد الله للشهادة، هذا الياسمين الذي لن يبقى عطراً ما لم تروه دماء الشرفاء، فلبى نداء ذاك الياسمين الذي تكالبت عليه كل أشواك الأرض محاولة قتل رائحته، فكان الجواب من شبابها الذين هم بعمر ذاك الياسمين ببذل الدم فداء لتراب الوطن وأزهاره.
وقال السيد وائل العبد الله والد الشهيد: لكي يبقى الوطن شامخاً موفور الكرامة والسيادة يحتاج إلى تضحيات أبنائه، وابني واحد من أبناء الوطن قدم دمه وروحه من أجل صون كرامته وعزته وسيادته، وقضى شهيداً من أجله، ومهما تحدثنا عن خصاله ومزاياه الحميدة فلن نستطيع أن نفيه حقه في الإجلال والتمجيد، فكان شاباً خلوقاً باراً بوالديه محباً لجميع الناس خدم وطنه بشرف وإخلاص، واستشهاده وسام شرف وفخار نعلّقه على صدورنا.‏
والدة الشهيد فاديا العبد الله أكدت أن الوطن غال، والحفاظ على كرامته وسيادته واستقراره يحتاج إلى تضحيات أبنائه، وهيثم ضحى بدمه وروحه من أجل هدف سام ونبيل، إنه الحفاظ على سورية ووحدتها،‏ وأضافت: إن كل دمعة ذرفت من أمهات الشهداء هي وسام على جبين كل شهيد، ورصاصة على هؤلاء المجرمين المارقين العابثين بأمن واستقرار الوطن، أعداء الله والوطن والإنسانية‏.
شقيقة الشهيد جيهان أكدت أن استشهاد شقيقها مبعث فخر واعتزاز لكل الشرفاء في هذا الوطن.

مدرسة الشهادة
ثقافة الشهادة هذه هي ثقافة وطنية بامتياز يتناقلها أبناء الوطن، ويعلّمها الآباء للأبناء عبر مدرسة استشهادية عريقة أرسى دعائمها القائد المؤسس حافظ الأسد بأقواله وأفعاله، حيث اهتم بالشهادة والشهداء وكرّمهم، وقد عرف بتقديسه للشهادة، وباحتضانه لأسرهم، ورعايته الكريمة لها.
يقول الرفيق أنور الحسنية عضو قيادة فرع الحزب: إن عطاءات القائد المؤسس لأسر الشهداء لا تعد ولا تحصى، فقد كان إحداث مكتب شؤون الشهداء بعد الحركة التصحيحية المباركة عطاء كبيراً لرعاية شؤون أسر الشهداء من مختلف الجوانب المالية والاجتماعية والصحية والوظيفية، كما أصدر السيد الرئيس بشار الأسد الكثير من المراسيم والقوانين التي تم من خلالها تكريم الشهداء وأسرهم، ويتم تخليد ذكر الشهداء بتسمية المدارس والمرافق العامة بأسمائهم، إضافة إلى الزيارات التي تقوم بها القيادات السياسية والحزبية والشعبية والأهلية لأسر الشهداء بشكل دوري، وتقديم الهدايا الرمزية لهم، والاطمئنان على أوضاعهم المعيشية، وتقديم الخدمات اللازمة، كل ذلك جعل الجندي السوري لا يلتفت إلى الوراء، فنجد مقاتلينا يتسابقون في المعارك دفاعا عن الوطن والكرامة لنيل الشهادة والدخول في سجل الخالدين.

رفعت الديك