كوميديا التهريج .. المشاهد هو الضحية دائماً!!
لم يكن مشوار الفن بسيطاً كما ظنه الفنان حكمت محسن، يوم وجد نفسه يواجه معتركاً فنياً شائكاً.. هذا المشوار الذي بدأه بخطوات، امتدت لمسيرة في طريق طويل محفوف بالمخاطر والمغامرات، فالفن في الثلاثينيات من القرن الماضي كان من الأمور المحاربة، وكان التفكير في ذلك الوقت يرفض منطق التمثيل والفن وجميع مبادئه وإبداعاته..
ومع التطور المتواصل للإنتاج التلفزيوني، كان للكوميديا دور كبير في تسليط الضوء على مشكلات الواقع الحياتية بأسلوب ساخر يحاكي هموم الناس ومعاناتهم، ويعبر عن الأزمات التي يعانيها المواطن وتؤرقه..
وارتباط الكوميديا بالنقد يعني أنها كوميديا هادفة انطلاقاً من إحساس صانعيها بمسؤوليتهم تجاه المشاهدين، ودورهم في تحريض فكرهم حول واقعهم، وما يدور فيه من أحداث، فقد اعتمدت الكوميديا السورية منذ بداياتها مع الفنان حكمت محسن على العفوية والتلقائية التي تحمل في مضمونها هدفاً تقدمه من خلال الابتسامة، وبعدها جاءت تجربة الفنانين نهاد قلعي ودريد لحام التي اعتمدت في شخصياتها على نماذج شعبية نلتقيها في حياتنا اليومية، وتعكس صدى لمعاناتنا وهمومنا..
بعد ذلك انتقلت الكوميديا من التلفزيون إلى المسرح عبر التعاون بين الفنان دريد لحام والشاعر محمد الماغوط، لتأخذ بعداً فكرياً بعيداً عن الكوميديا الساذجة، فعبرت تعبيراً مباشراً عن الهم الوطني والمعيشي للمواطن، إذ مازجت بين النقد السياسي والاجتماعي.
من هنا فإن دراسة المراحل التي مرت بها الكوميديا السورية منذ عبد اللطيف فتحي فمحمود جبر ودريد لحام وياسر العظمة تؤدي بنا لنتيجة سريعة من تلك الأسماء وهي كوميديا الفرد الذي يحيط به مجموعة من الممثلين من الدرجة الثانية ليمهدوا له وللفكرة التي سيقولها.
لكن سمة الكوميديا الجديدة والتي لا تحمل اسماً محدداً تعتمد على مجموعة من الأشخاص وتآلفهم في ما يقدمونه، خاصة وأن الكوميديا تؤثر وتتأثر بكل ما يحيط بها، فما كان يضحك في الخمسينيات مثلا لم يعد يضحك الآن، فالأزمات الاقتصادية والحياتية والأفكار وطرق طرحها كلها أمور أصبحت مختلفة باختلاف الحالة الفكرية للناس، والكوميديا تعبر عن حالة عقلية تختلف من جيل لآخر وكلما كانت الكوميديا مقاربة للعصر تستخدم مفرداته وإحداثياته فإنها تعيش فترة أطول، وانطلاقاً من ذلك فقد عبرت الكوميديا عبر مراحل تطورها عن هويتها وخصوصيتها.
إلا أن تساؤلات كثيرة أحاطت بهذا الإنتاج القديم منه والحديث، وتناولت مدى مشروعية ما يقدم، وكيفية تقبل الجمهور له، والعلاقة التي تربط بين التجارب المتعاقبة قديمها وحديثها، أهي مقطوعة بشكل جزئي أو كلي..؟ أم أنها علاقة استمرارية وتغذية وتطوير..؟ والقديم هل يمكن أن يعتبر مجرد ماض وتاريخ وحسب..؟ أم أنه ما يزال يفرض وجوده وله محبوه ومتابعوه من كبار وصغار حتى الآن..؟ والأعمال الحديثة هل استطاعت أن تلغي ما قدم سابقاً.. أم أنها فرضت نفسها كتجربة جديدة ولون كوميدي أعطى إضافة جديدة لمسيرة الإنتاج السوري للكوميديا..
والسؤال الأهم الذي يفرض نفسه بإلحاح من هو الحكم في هذه المسألة..؟ وهل هناك معيار دقيق تقاس وفقه الأمور، وإن وجد أهو معيار الناقد أم معيار الجمهور..؟ وهل يمكن للجمهور أن يكون حكماً وهو غالبا ما يقع فريسة لعملية تدجين تبعا لما يتلقفه من الفضائيات المتعددة، فهو إن كان قادرا على تمييز الغث من السمين، فهذا لا يحصنه من الوقوع في مطب تقبل أي عمل كوميدي لكونه يتلهف لمتابعة ماهو بعيد عن التراجيديا ومآسيها في محاولة للهروب من هموم الحياة ومشكلاتها..
وما يشهد للكوميديا السورية منذ انطلاقتها وحتى الآن هو الرسالة الإنسانية والفكرية التي تحملها من خلال تقديم المأساة بأسلوب كوميدي ساخر، وقد نجحت بهذه المهمة.
وفي هذا الظرف الصعب والمؤلم الذي نعيشه، ربما يكون للضحكة أهمية بالغة يحتاجها الناس لتشكل حالة استراحة هرباً من الظروف التي يعيشونها، وبما أن المشاهد السوري لم يعتد على السطحية والتهميش، فإنه يرفض الكوميديا التي لا تحمل رسالة هادفة ليكون مفعولها مؤثراً في المشاهد.
وإذا كان مسلسلا “ضيعة ضايعة والخربة” يشكلا استمرارية لمشروع ممدوح حمادة الذي يقوم على استشراف الواقع وقراءته قراءة فكرية نقدية لما يحدث الآن على مستوى الوطن العربي، بما فيه سورية. فإن مسلسل “بقعة ضوء” بأجزائه كلها أثار جدلاً وسجالاً واستقطب في الوقت ذاته نسبة كبيرة من المشاهدين بسبب تماهيه مع هموم الناس وتسليط الضوء عليها ومعالجتها، ومثّل بمفارقاته وصوره الناقدة والجرأة التي قدمت بها مشهدياته ضمير الناس، وعرى المجتمع برؤية إخراجية متقنة وجميلة، رسمت حالة من الوعي لدى الناس. وهو يمثل مع مسلسلي “ضيعة ضايعة” و”الخربة” مشروعاً واحداً تتكامل رؤاه الفكرية والفنية، ومع كل الظروف الحالكة التي نعيشها استطاعت هذه الأعمال أن تنتزع الابتسامة من الألم الذي يعتصرها، وأن تكون امتداداً حقيقياً للكوميديا السورية منذ انطلاقتها وحتى الآن.
إننا لا نستطيع أن ننكر أن الكوميديا الجديدة شكلت انطلاقة الكوميديا السورية إذ اعتمدت لغة جديدة غير مستهلكة، لغة مختلفة تحترم عقل المشاهد، ولا تقدم الأحداث بشكل تهريجي دون معنى، وهذا غاية في الأهمية.. لكن المشكلة أن هذه الأعمال وقعت في مطب التكرار، وأصبحت جميعها مستنسخة عن بعضها، بدءاً من مرايا ياسر العظمة، مروراً ببقعة ضوء، وصولا إلى باقي الأعمال التي قدمت تحت مسمى الكوميديا بعناوين مختلفة، والتي اعتمدت جميعها على التسلسل في أجزاء يتحفوننا بها في كل موسم رمضاني، يقدمونها بالأسلوب والأفكار ذاتها و الممثلين ذاتهم، دون أن يكون هناك أي جديد أو تجديد فيها، وهذا لا ينسحب على الكوميديا السورية فقط، وإنما على الكوميديات العربية الأخرى، بعناوينها المتعددة والمختلفة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على تشابه الظروف والأزمات بين المجتمعات العربية كلها..
أعتقد أن المسألة تحتاج لنظرة أكثر شمولية، ولوقفة يتم من خلالها إعادة النظر فيما يقدم، وابتكار أساليب وأفكار جديدة تواكب معطيات العصر بعيداً عن التكرار والتقليد، لنحافظ على نجاحنا وتميزنا.. لقد شكلت الكوميديا الجديدة انطلاقة الكوميديا السورية إذ اعتمدت لغة جديدة غير مستهلكة، لغة مختلفة تحترم عقل المشاهد، ولا تقدم الأحداث بشكل تهريجي دون معنى، وهذا غاية في الأهمية.. لكن تساؤلنا الذي يفرض نفسه هنا: ما نشهده الآن من أعمال تُدرج تحت مسمى الكوميديا، وهي لا تمثل في طروحاتها أكثر من حالة تهريجية فارغة من أي مضمون، هل يمثل حالة تنافسية بين أصحاب هذه الأعمال؟
حقيقة، هم يراهنون على من يستمر أكثر، والضحية هو المشاهد دائماً!!
سلوى عباس