ثقافةصحيفة البعث

تحولات الرمز والدلالة في “العوديسا الفلسطينية”

يعدّ كتاب “العوديسا الفلسطينية” للشاعر العربي الكبير خالد أبو خالد والذي صدر قبل سنوات بثلاثة مجلدات، وثلاث طبعات في كلّ من فلسطين والجزائر وسورية، اختزالاً للتجربة المديدة لـ”الشاعر المحارب” المعروف بين شعراء فلسطين والوطن العربي أنه قَرَنَ البندقية بالكلمة كفعلٍ مقاوم، واستطاع باقتدار القائد والمبدع العنيد أن يزاوج بين تجربته الأدبية ونظيرتيها الإعلامية والعسكرية، ليكون من القامات والشخصيات الوطنية والإنسانية التي تغري بالوقوف عندها بعد هذه التجربة الثرية والثرة.

يضمّ المجلد الأول من “العوديسا الفلسطينية” أربع مجموعات شعرية، هي:”وسام على صدر المليشيا”، “نقوش محفورة على مسلة الأشرفية”، “تغريبة خالد أبو خالد”، “أغنية حب عربية إلى هانوي”. فيما يضمّ الثاني خمس مجموعات، هي: “الجدل في منتصف الليل” و”شاهراً سلاسلي أجيء”، “بيسان في الرماد”، “أسميك بحراً.. أسمي يدي الرمل”،”دمي نخيل للنخيل”. أما المجلد الأخير فضمّ قصيدة “العوديسا” وقصائد أخرى، فضلاً عن مجموعات “فرس لكنعان الفتى”،”رمح لغرناطة”، و”معلقة على جدار مخيم جنين”، “قتلنا الصمت”، “الرحيل باتجاه العودة”.

هذا الكتاب الذي كتب أبو خالد على غلافه الخلفي: “القصيدة مفتوحة.. القصيدة مقفلة.. في الحالتين، لتؤكد أنها غير قابلة للتأويل الغريب أو المتغرب. فإما فلسطين وإما فلسطين.. إما أن نكون أو نكون، تلك هي المسألة.. تأسيساً على الحياة وهي كونية دائماً”، مضيفاً: “وهذه فلسطين شاسعة.. وواسعة.. وهي هي بلادنا التي نعطيها.. فتحملنا إلى الكون.. مذكرة أنها الاسم الحركي له وللوطن العربي”، كان محور دراسة عميقة أنجزتها الكاتبة والناقدة الدكتورة ميادة إسبر وصدرت مؤخراً في كتاب عن “مكتبة كل شيء” في حيفا تحت عنوان: “سيمياء الشعر..تحولات الرمز والدلالة في العوديسا الفلسطينية للشاعر خالد أبو خالد”، وذلك بمقدمة وثمانية أبواب هي على التوالي: من الأسطورة إلى الملحمة، التحولات المعاصرة للرمز الملحمي، من الرمز الأدبي إلى النمط الأعلى، الرمز الأدبي والرؤية الشعرية، شعرية المادة في “العوديسا الفلسطينية”، جدلية اللغة الشعرية والزمن في “العوديسا الفلسطينية”، تأنيث القصيدة، المناص الشعري في “العوديسا الفلسطينية”.

لقد فرضت تجربة الشاعر خالد أبو خالد عموماً والعوديسا خصوصاً، نفسها على صفٍ واسعٍ من الباحثين ومؤرّخي الأدب والنقاد، ولاسيما من تبحّر في مخزوناتها اللغوية والدلالية ومعانيها المضمرة والعميقة، واستكشف رموزها وإشاراتها وعلاماتها التي برع الشاعر في توظيفها، ناهيك عن الموروث والأساطير والسير الشعبية، التي حوّلت كل قصيدة إلى ملحمة شعرية بحدّ ذاتها، تؤكد فرادة التجربة وما تحمله من قدرة على البقاء والخلود، ومن بين هؤلاء النقاد د. إسبر التي تقول: لقد ورث خالد أبو خالد اللغة بوصفها معجماً لا تجربة، وورث الأدب بوصفه نسقاً ونظاماً، لا تقليداً يُتّبع، ومعاني تُستعار، فكانت حساسيته الشعرية مجلى الرؤية الفنية التي طوّر من خلالها أدوات رمزية وخصائص ملحمية، وصولاً إلى فنّ الملحمة الجديدة التي تنهض على فهم عميق لزمن الكتابة بوصفه زمناً كونياً لا زمناً فردياً، مسترداً بذلك القصيدة من حيّز التشظي الفردي والتجزؤ الجوهري الذي قد تهوي فيه أية تجربة حداثية فردية، ليغرسها في التجربة الإنسانية، دونما إلغاء أو إقصاء لوسم الإرادة الفنية للشاعر المتفرد.

وبما أن الثيمة الأساسية لـ”العوديسا الفلسطينية” تقوم على مقاربة مفهوم الحنين والعودة إلى الوطن (فلسطين) بمنطق مختلف يتحوّل فيه “المحارب” العائد إلى بطل ثوري، فإن الكاتبة ستحفر عميقاً في مكونات القصيدة ودلالاتها، للبحث عن ملامح وصورة هذا العائد. يقول أبو خالد في مطلع”العوديسا”:(عائد من مساء الحروب.. ومن نجمة في شمال الغروب.. ومن جمرة في رماد الجنوب.. عائد من رحيلي.. من طرق لا تؤوب). وعلى هذا ترى د. إسبر أن اندماج بنية البطل الأسطوري بالبطل الثوري الجديد، يحوّل الأحداث الأسطورية إلى أحداث رمزية، بحيث لا تفهم واقعية القصيدة إلا من خلال الرمز، مما يجعل من الكتابة الملحمية فنّ إدراك التطابق والصراع معاً، كما يجعل موت الإله (البطل المحارب) وعودته، ثم موته وعودته آلاف المرات، فعلاً ثورياً يتناسخ في الأجيال، ليغدو المخلّص لا إلهاً منتظراً، ولا فعلاً كلامياً تستريح في أفيائه المخيلة العربية، ولكنه المحارب القادم من رحم الأرض الظامئة لتندمج في صورة البطل الواحد.. وبذلك تكون الملحمة نشيداً للأبطال الذين يدلون الشعوب إلى النور.

أما تفرّد شعرية خالد أبو خالد في تجليها وذروتها الملحمية وكيف استطاعت قصيدته صوغها ببناء فني محكم، فتشير د. إسبر إلى أن القصيدة عنده تخطّت سؤال الشكل معتمدةً أعرق الأشكال الأدبية، ومكتنفة أقدم الأنماط الميثولوجية، لتثبت أن قضية الشكل عنده قد جاوزت حدود التجريب، إلى أفق الإبداع والخلق الفني، فلم تقف بالشكل عند حدود الأوزان والأشطار وعدد التفعيلات، فتلك أبسط قضايا الشكل، وإنما وجدت شكلها ونظامها الخاص في بنائها الداخلي، وفي طريقة تأليف الصور وتركيب العوالم، والتماس تحولات الرمز، فلم يكن النفس الملحمي الذي رشحت به اللغة الشعرية صنيعة المدّ الشعري وحده، إذ ليست كل مطولة بملحمة، كما أنه ليس وليد ارتصاص الصور والرموز الأسطورية، فهي أكثر من أن تُحصى في الشعر العربي، ولكنه في ذلك البناء الفني المحكم الذي ينهض على منطق جدلي تنمو وفقه القصيدة مبرزة جوهر الصراع الأزلي، وذلك الزمن الكوني الشاسع الذي يتخطى الآني العارض، وفي تلك اللحمة الآسرة التي تتناسخ فيها العوالم والصور، والسلاسل اللغوية التي تنضح بالانفعال، فتشفّ عن نفس منشئها، كما تشفّ عن المحمولات الدلالية التي تزخر بها.

أخيراً.. لا بدّ من الاعتراف بأن دراسة د. إسبر غنية جداً بالحدّ الذي لا يمكن الإحاطة بها في مقال عابر، ولاسيما أنها قدّمت في أبوابها الثمانية الكثير من الاستنتاجات والأحكام النقدية الجديرة بالانتباه، والتي ختمتها بالقول: إن خالد أبو خالد لا يسرد كما سرد أوديس، وإنما هو يكتب كما كتب هوميروس يوماً، بعد قرون من الحكاية، ولهذا كانت “العوديسا الفلسطينية” نصاً مفتوحاً لا ينتهي، بل يُترك، مضيفة: “إن نص العوديسا، نصٌّ ما يزال يُكتب الآن.. في الزمن الذي سيأتي”.

بقي أن نذكر أن الدكتورة ميادة إسبر أستاذة النقد والدراسات الأدبية في جامعة البعث بحمص، لها عدد من المؤلفات الأدبية والنقدية، إضافة إلى دراسات وأبحاث منشورة في الدوريات والمجلات المحكمة في سورية والوطن العربي.

عمر محمد جمعة