معركة ادلب وخيارات أردوغان
الدكتور سليم بركات
في رسالة مرافقة للمساعدات الطبية التي قدمتها تركيا إلى أمريكا في 29 نيسان المنصرم لمكافحة فيروس كورونا أرسلها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لنظيره الأمريكي دونالد ترامب جاء فيها: “السيد الرئيس صديقي العزيز أتمنى أن تسهم هذه المساعدات المتواضعة في دعم كفاحكم ضد الوباء، وأن تعافي مواطنيكم المصابين بكورونا”، رسالة عبّرت عن حرص أردوغان على التواصل باعتباره شريكاً موثوقاً وقوياً للولايات المتحدة الأمريكية، دون أن ينسى الإشارة إلى التطورات الأخيرة في المنطقة التي تؤكد أهمية التواصل والتنسيق التركي الأمريكي لتفعيل الإصلاحات والتعديلات التي يتطلبها النظام العالمي، وينبغي الاستفادة منها في تطوير العلاقات التركية الأمريكية، كما لم ينس أردوغان أن يعرب في ختام رسالته هذه عن أمله في أن يدرك الكونغرس والإعلام الأمريكي بشكل أفضل الأهمية الاستراتيجية للعلاقات التركية الأمريكية لتفعيل إمكاناتها بأقصى درجة وبأقوى صورة في جميع المجالات.
السؤال الذي يطرح نفسه من خلال هذه الرسالة هو: أليس على خطأ كل من كان يعتقد أو يصدق أن العلاقات الروسية التركية قد خرجت من دائرة الشك إلى دائرة اليقين، وبالتالي ألم يكن على خطأ أيضاً كل من صدق أو اعتقد أن كل ما جرى ويجري في المنطقة كان بمعزل عن التنسيق الأمريكي التركي، أو أن هذه العلاقات قد تعرّضت للتصدع في يوم من الأيام، لاسيما ما يخص وجود الإرهاب في هذه المنطقة، ودعمه واستثماره في إطار استراتيجية تركية أمريكية موحدة واحدة؟ للإجابة عن هذا السؤال فيما يخص العلاقات التركية الروسية وتطوراتها، لابد من التأكيد على أن التقارب المعلن بين روسيا وتركيا منذ عام 2016 وعلى أثر أزمة إسقاط تركيا للطائرة الروسية “سو 24″، كان ومازال وظيفياً وليس استراتيجياً، وربما في مجمل الحالات كان تقارباً سمته التناقض، وعلى وجه الخصوص فيما يخص الأزمة السورية حصراً، وبالتالي كيف لا يكون في مثل هذا التناقض وروسيا من أكبر الداعمين لسورية في مواجهة الإرهاب، في الوقت الذي نجد فيه تركيا على نقيض الموقف الروسي كونها تشكّل الداعم الأكبر لهذا الإرهاب، ولما كان الأمر كذلك فمن الطبيعي أن تتصاعد وتيرة الاختلافات بين الطرفين الروسي والتركي، لاسيما على الصعيد العسكري الميداني الذي يبدو اليوم أكثر وضوحاً فيما يخص معركة تحرير ادلب، إذ على الرغم من كل التوافقات السابقة فيما يخص خفض حالات التوتر والهدنة، ووقف إطلاق النار منذ العام المنصرم حتى يومنا هذا، نجد على صعيد الواقع أن روسيا تقدم كل مقومات الدعم العسكري للقوات المسلحة السورية وقواها الرديفة في مواجهة المجموعات الإرهابية التي تدعمها تركيا ومن لف لفها، وما المعركة الأخيرة التي حقق من خلالها الجيش العربي السوري انتصاراته المشهودة، والتي استطاع من خلالها تحرير الكثير من المناطق التي كانت تسيطر عليها المجموعات الإرهابية بدعم تركي، إلا الدليل على ذلك، وهو دعم استطاع من خلاله الجيش العربي السوري وقواه الرديفة استعادة السيطرة على الطريق السريع m4،m5 الذي يربط حلب بدمشق، وحلب باللاذقية، دعم قدمته القوات الجوية الروسية للجيش العربي السوري رداً على تحرشات المجموعات الإرهابية، وعلى رأسها جبهة النصرة في المعركة التي خاضها هذا الجيش في مواجهة هذه المجموعات أواخر شهر شباط المنصرم، ودفع من خلالها الجيش التركي الداعم لهذه المجموعات الإرهابية ثمناً باهظاً في الأرواح والعتاد، كل هذا وغيره من الدعم العسكري والسياسي يؤكد مدى عمق التحالف السوري الروسي الاستراتيجي في مواجهة الإرهاب، الأمر الذي يجعل من معركة تحرير ادلب على رأس الأولوية السورية الروسية كونها تمثّل معركة الحسم مع الإرهاب.
الواقع الحالي في منطقة ادلب يشير إلى وجود رغبة أمريكية صهيونية في قيام حرب شاملة بين سورية وتركيا، وهذا يعني فشل كل المحاولات لحل التناقضات الروسية التركية بالطرق السياسية، والاتجاه بها نحو الحرب لتبقى جميع أطراف النزاع في مواقعها السابقة، كما يعني وجود المحاولات الغربية، وفي الطليعة الأمريكية منها، لإضفاء الشرعية على الإرهاب، وعلى رأس هذا الإرهاب ما يسمى بجبهة النصرة من خلال تغيير اسمها بغاية حذفها عن قائمة التنظيمات الإرهابية من قبل الأمم المتحدة، الأمر الذي يجعل من قرارات أستانا واتفاقات سوتشي في طي النسيان، ويؤدي إلى الصراع المسلح بين الجيشين السوري والتركي الذي لا ترغبه روسيا، ولا تتمناه سورية في حال تراجع تركيا عن مواقفها في دعم المجموعات الإرهابية المتواجدة في ادلب، وانسحابها من الأراضي السورية، من خلال إيجاد الحلول السياسية التي تنسجم مع الموقف الروسي المتمسك بالانسحاب التدريجي للقوات التركية من ادلب، ومن ثم من جميع أنحاء سورية بعد الحصول على ضمانات من خلال المصالحات الوطنية، وترحيل ما يمكن ترحيله من المجموعات الإرهابية عبر تركيا وخارج سورية.
من الصعب الكتابة عن معركة ادلب اليوم، لأن الأيام القادمة قد تشهد تطوراً على الأرض يسبق الأفكار، نتيجة الأحداث المتسارعة التي لا يمكن التنبؤ بها، فالواقع يشير إلى أن المنطقة على فوهة من نار بسبب الاختراقات الإرهابية للهدنة المعلنة التي وافقت عليها سورية بناء على طلب روسي وبرعاية روسية تضع في أولوياتها إعادة ادلب إلى حضن الوطن سورية، هدنة جعلت تركيا في حالة حرب ليس مع سورية فقط، وإنما مع روسيا أيضاً، ومع أطراف عربية متعددة، تأتي في طليعتها مصر، لاسيما بعد تدخل تركيا المباشر في ليبيا، الأمر الذي سيسرّع بالموقف الروسي نحو خيار الحسم في معركة ادلب الملتهبة، وهذا بدوره سيسرّع أيضاً بوتيرة التناقض الروسي التركي أكثر مما هو متوقع، وبالتالي ستشتد لهجة الجدل في الداخل التركي بين أردوغان ومعارضيه، لاسيما في اللحظة التي تؤكد فيها روسيا دعمها اللامحدود ليس لحماية الأراضي السورية فقط، وإنما لمواجهة الإرهاب وداعميه معتمدة على حلفائها في هذه المهمة، وفي هذه الحالة تكون تركيا أردوغان قد وضعت نفسها بنفسها في خانة الإرهاب الذي ترفضه شعوب المنطقة، بما في ذلك المعارضة التركية التي تعمل على إسقاط أردوغان وحزبه الإخواني الإرهابي الذي لم يجلب إلى المنطقة سوى الحرب والدمار، وبالتالي ستصبح النظرة الروسية لأردوغان على أنه لم يعد شريكاً لروسيا، بل هو متنكر لكل الاتفاقيات معها، بما في ذلك اتفاقات أستانا وسوتشي وغيرهما من اتفاقيات، وهذا ما يؤكد قول ديمتري نوفيكوف رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الدوما (مجلس النواب الروسي) المتضمن: “إن السلطات التركية لا تملك أية صلاحيات لتحديد مصير سورية”.
كل ذلك يؤكد أن ما يسعى إليه ترامب وأردوغان ومن لف لفهما من خلال هذه المخططات الإرهابية هو النيل من السلطة الوطنية الشرعية للدولة السورية، بغاية توفير المكان الملائم لأدواتهما من الإسلامويين الإرهابيين على حسابها، وهذا ما عبّر عنه أردوغان في إحدى لحظات انفعاله أمام البرلمان التركي قائلاً: “إن القوات التركية دخلت سورية بدعوة من الشعب السوري، وبالتالي لن تغادرها قبل أن يطلب منها الشعب ذلك”، ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا: إن في هذا القول كل النوايا المبطنة للأطماع التركية في سورية، وفي المقدمة تقسيمها وضم أجزاء منها على نمط السيناريو الذي استخدمته تركيا في سلخ لواء اسكندرون عن وطنه الأم سورية.
بقي أن نقول: إن معركة تحرير ادلب لابد قائمة، وهي أمام ثلاثة خيارات: الأول هو تحسين العلاقات السورية التركية برعاية روسية، وبالتالي حل الأزمة السورية التركية سياسياً دون صدام مباشر مع الجيش التركي، وهذا ما تفضّله روسيا وسورية فيما لو أدى إلى تحرير منطقة ادلب من الإرهاب، والثاني هو الإبقاء على العلاقات الروسية التركية المتوترة التي ستذهب بتركيا نحو المزيد من التنسيق مع حلف الناتو ومع الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي يزيد أزمات المنطقة تعقيداً، وهذا ما تتجه إليه أمريكا وترغبه للسيطرة على مقدرات المنطقة بما يتوافق ومصالحها، والثالث هو انقطاع العلاقات التركية الروسية بسبب الدعم التركي للإرهاب الذي لخصه بوتين بقوله: “إن الذهاب إلى محاربة الإرهاب في سورية هو دفاع مسبق عن الأمن القومي الروسي قبل أن ينتقل هذا الإرهاب إلى روسيا”، ولا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن هذا الخيار هو الخيار المحتمل مادام المشروع الأمريكي الصهيوني مستمراً بالاستثمار من خلال أردوغان ومشروعه الإخواني العثماني الذي يتمدد في المنطقة على حساب الأمة العربية، في الوقت الذي لا توجد فيه خيارات أخرى تلوي عنق أردوغان وإرهابه، وتلزمه الانسحاب من ادلب كي تعود إلى حضن الأم سورية.