الجسد شظية!؟
د. نهلة عيسى
تفجرت منذ أسبوعين الحرب من فمي دماً, ووجعاً عبثياً لا معنى له سوى أن الجسد ناء بالعقل, وأن قلبي بات مكسور الخاطر, واجماً, حزيناً, فهرعت أفتش في الصور العائلية القديمة عن العمر الذي في غفلة مني مضى: دروب تطاول الأفق, وسجاجيد أحلام, ورغبات بسيطة تشابه سذاجة طفولتنا, وذاك العالم الذي عشنا فيه, حيث كل مافيه واضح المعالم, وينتمي للونه, بلا تحايل, ولا تدليس, ولا تضمين, ولا أقنعة تخفي السواد, وتدعي البياض؟
قلبي مكسور الخاطر, لأن الطفلة في ضميري مازالت تعيش, ومازالت تدرك بالفطرة قبل التجربة, أن التمساح لا يمكن أن يلاعب غزالاً, وأن الضفدع القبيح لايمكن أن يتحول إلى أمير وسيم إلا في أفلام الكارتون. والمأساة أن عالمنا الراهن يسخر من الطفلة في داخلي, بل يغتال كل طفل, بزعم المؤامرة, والبراغماتية, والمصلحة السياسية التي لا تعرف عدواً أو صديقاً؛ ولذلك ليس لحق أو خلق أو فضيلة مكان, فالقوة هي الأميرة الأسطورية, القادرة على أن تعيد الشيخ إلى صباه, وأن تحيل الضفدع أميراً, في زمن.. النقيق فيه بات قمة الطرب!!
قلبي مكسور الخاطر في بلداننا خائبة الرجاء, عاشقة الثرثرة, منهية الحكايات وفق أماني من حكم, حيث العقل نافذة مجللة بالستائر, وقطار التفكير قطار وداع إلى العالم الآخر, وحيث التشابه والنمط أخلاق وأدب, وحيث مجبر أنت كل يوم على تقديم كشف حساب وعرائض استرحام على ما ليس متوفراً بك, لبشر ليس متوفر بهم ما يطالبونك به!!
قلبي مكسور الخاطر, لأن أرجوحة التفكير ترميني كل لحظة على جزر الذاكرة, لأقابل من جديد, كل التجارب البائسة, حين لم يكن المتوفر مني كافياً للآخرين, والعكس أيضاً صحيح, وهي تجارب نخوضها جميعاً كل يوم, وننسى, أو ربما نتناسى أن نسأل: لماذا؟ حيث السؤال مواجهة مع أشباح, ومسلمات, وقوالب كلامية, بعضها يجعل مشيئة الرب, شماعة تبرر أننا هكذا, وبعضها يُحمّل الزمان, والمكان, والحكام, والحظ العاثر, الذنب أننا هكذا, ولكن لا إجابة في كل ذلك على لماذا!؟
ذلك لأن الإجابة على لماذا؟ سوف تظهر حقيقة أننا دائماً ما نتجاهل ما في الآخرين, ونبحث فيهم, أو نسقط عليهم ما نريده فيهم, ثم عندما نصحو فجأة من غيبوبة التوهم أنهم نحن, نشعر أننا كنا مغفلون, وأننا خُدعنا, وأننا سُرقنا, والحقيقة لا هذا ولا ذاك.. كل ما في الأمر أننا لا نرى في الآخرين ذواتهم, بل أحلامنا, وأوهامنا؛ وعندما يزول السحر, يفاجئنا أن الآخرين يتثاءبون, ويتجشأون, ويخافون, ويأكلون, ويشربون مثل كل البشر, وأننا كنا نعاشر الوهم على سفينة المرح, ونسينا أن الحياة بطبيعتها فيها الكثير من الغرقى, والقليل من الناجين, وفي كلتا السفينتين لا يستطيع المرء أن يعيش الحياة سوى مرة واحدة, ليس مسموحاً فيها الإعادة من جديد, فهل لدى أحد جواب لا يكون فيه الرب مسؤولاً عن أننا نسينا أن نعيش!؟
قلبي مكسور الخاطر, لبث كرجل الثلج صابراً, صامتاً على مدار سنين الخراب, يراقبنا نتطاول, ونتدافع, ونتزاحم, ونتبارز “مع الرصاص” بالألسن, والأصوات النشاز, ليؤكد كل واحد (الإرهابي, والفاسد, والخائن, والبائع, والداعر, والسارق, والصادق, والكاذب, والكبير, والصغير, والحاضر, والغائب, والمؤيد, والمعارض) أنه وحده من يحق له التحدث باسم الوطن, ووحده من يعرف مافي سريرة الوطن, ووحده من يملك الحديث الصواب, ووصل بعد عشر من الجليد مرحلة الغليان, من مهزلة التذكارات “سيلفي والوطن خلفي”, ومهرجانات الشتيمة والسباب, مدعية حب الوطن, ومدعيةً الدفاع عنه, والوطن بريء من الجميع, لأنه بعد العشر, لم يعد أحد منا بريئاً!
ولأن لا أحد منا بات بريئاً, ولكثرة ما ادعينا أننا الصدفة الناطقة باسم البحر, رغم أننا ملفوظون من البحر, خرج جسدي من صمته, أو من صبره, وقرر الفرار من الخدمة الإجبارية في مملكة – والأصح مقبرة – الميكرفونات التي لا تحتفي سوى بالموت, ولا تصلح سوى للتأبين, وتطويب القاتلين والسارقين والفاسدين, وإكراه من لا حول لهم ولا قوة على تمجيد القبح, ويبدو أنه لا ينتظر عفواً!؟