ماذا يفعل الأدباء في زمن كورونا؟
كنت قد أرسلت إلى عدد من الأدباء المصابين بآفة الكتابة، ماذا يفعلون في هذا الزمن، وقد سيطر الكورونا عليهم وعلينا، بعضهم أجاب مشكوراً وبعضهم تلكأ، وبعضهم رفض أن يجيب، وبعضهم صمت كأن على رأسه الطير، فقلت نكتفي باثنين، وسنعززهم بثالث الذي هو أنا، وعلى ذلك بدأت الحكاية: القاصة والروائية النشيطة في مدينة حلب، والتي تحضر “ظهريات” اتحاد الكتاب العرب ومديرية الثقافة “لميس الزين” بدأت بالقول:
“إنّ المرأة تلتزم البيت ـ وهذه فرصة ذهبية لإنجاز الكثير من الأعمال والهوايات المتأخرة والمؤجلة – لكن ما حصل معي كان مختلفاً؛ فحياتي التي كانت تتسم بقدر كبير من الهدوء، صارت فجأة مهدورة بقادم غامض أو خوف من مجهول، وشعرت أن سكينتي تزعزعت، حتى القراءة التي كانت طقساً يومياً، تبدد الوقت في التفكير الملح بالأسئلة الكبيرة التي وضعنا الفيروس وجهاً لوجه أمامها، والكتابة هي الأخرى تحولت إلى تدوين هواجس، وتبادل حوارات مع الآخرين عبر وسائل التواصل، في سعي حثيث لمعرفة ما وراء هذا الحدث الجلل، وتلمس أسباب الدعم النفسي، أسئلة كبيرة وضعني الفيروس أمامها وجهاً لوجه.. حروبنا ونفطنا وأسلحتنا وعتادنا وعنصريتنا وكراهيتنا وتجبرنا مقابل فيروس أصغر من البكتريا، ليس كائناً حياً، وأقل من أن يتمكن من العيش مستقلاً، أليس هذا هو حجمنا الحقيقي؟ لكن هذه الأسئلة الوجودية تمخضت أخيراً عن قصة كتبتها، كانت الإنجاز الوحيد المضاف لإنجاز أهم هو الحفاظ على النفس من العدوى..”.
وتوجهت إلى الروائي عبد الغني ملوك، من حمص، وسألته ذات السؤال فأجاب: “كنت استهلك وقتي قبل الحظر بلقاء الأصدقاء والمعارف في مكتبي وفي منتديات ثقافية عدّة.. كان الوقت يفرّ من بين يدي بسرعة، لدرجة أنني لا أقرأ جيداً إلا ما ندر.. كنت سعيداً، لكن الإنتاج كان قليلاً، وعندما جاء الحظر اضطررت إلى البقاء في منزلي وهذا المنزل يقع في منطقة هادئة تحفّ بها أشجار سامقة كأنني في غابة، انقطع عني الأصدقاء، وهذا ما أحزنني، ففكرت بالاستعاضة عنهم بأصدقاء جدد بمتناول يدي، وتذكرت قول من قال “وخير جليس في الأنام كتاب”، وكانت مكتبتي في البيت مثقلة وتكتظ بصنوف هائلة من الكتب ووضعت خطة للقراءة والكتابة التي توقفت عنها منذ أكثر من سنة، ففكرت بإصدار رواية جديدة كانت مشروعي القادم، وقد بدأت فيه ولم أنجزه، أما القراءة، فكانت هوايتي التي أعوزها الوقت، فقد كنت أقرأ كلّ يوم خمس إلى سبع ساعات، وأحيانا أتوقف لأكمل روايتي التي بين يدي، وجاء الحظر ليمدّني بطاقة إضافية وبمتسع من الوقت لأكمل ما بدأت به.
يقولون ربّ ضارة نافعة، ومن الفطنة أن تحوّل المحنة إلى منحة، وهكذا فعلت، فقد حوّلت ما بدأ لي عطالة إلى حالة إنجاز، كنت أحتاج الوقت لتنفيذها، وأنجزت روايتي الجديدة وأعددتها للطباعة، وقرأت عشرين كتاباً،وما زلت أقرأ، وستنتهي الحالة لأعود فألتقي بأصدقائي الذين اشتقت إليهم لأخبرهم بما فعلت في الغياب، الحياة جميلة، وعلينا أن نستمتع بكلّ لحظة نعيشها”.
أمّا أنا الذي اتفق أبي وأمّي على تسميتي فيصل، والذي امتهنت مهنة الوراقة، فقد جلست في منزلي أعدّ النجوم الجالسة في أماكنها، فلا مقهى نتجادل فيه ونتقاتل ونتخاصم وندق على الطاولة من أجل قضية ما، ولا مسرح نجلس فيه صامتين، حتى ولا أمسية (عفواً ظهرية) نسمع فيها شعراً رديئاً ونصفق بحرارة للذين يقولونه، مثلما نصفق لشعر يلقيه المتنبي. ذهبت إلى المطبخ لأساعد زوجتي في عملية الطبخ، فأمرتني بالخروج، وهي بحالة استنفار ووقوف لشعرها، فخرجت، وعدت إلى غرفة الكتب، أخرج كتاباً أقرأ بضعة صفحات ثم أردّه إلى مكانه،لقد ضايقني هذا الكورونا، وجعلني أصبّ لعنتي عليه وعلى الأصدقاء الرديئين الذين تركوني لوحدتي.
أخرجت قلماً وكمية من الأوراق علني أبدأ بكتابة رواية عن هذا الزمن، وبدأت الكتابة فإذا أنا أعيد ما نشرته سابقاً، وأنظر من النافذة فأرى هذا الليل الذي أصبح أشدّ حلكة من أيامي، أنام وأستيقظ، أروح وأجيء، أجلس وأتحرك، لا شيء إطلاقاً كتبت الشعر الرديء، وقد تفرجت على المسلسلات والأفلام أيضاً الرديئة، جرّبت أن أتعامل مع الفيس بوك، لكنني لم أستطع، وكذلك الانترنت، أستبشر مع كلّ صباح بأن هذا اليوم سيكون أفضل من الذي قبله، فيكون أسوأ منه، فكرت بأن ألقي نفسي من البلكون، ولكن بيتي في الطابق الأرضي، أو أن أفتح جرة الغاز، ولكن زوجتي في المطبخ وسوف تمنعني عن فعل ذلك، وسوف أورطها، إنّ سمحت لي، بأن تقف من بعدي، في الشارع باحثة عمن يجلب لها جرة غاز، أن أقطع شريان يدي بمقص، سوف أنزع الفراش بدمائي، يا إلهي ما هذه الحالة، لو كان عندي مسدس، لكانت الأمور أبسط، طق.. طلقة واحدة وينتهي الموضوع، ما هذا التفكير ، الانتحار حرام، عليَّ أن أبحث عن طريقة أخرى، فأن تموت بالكورونا أفضل من غيره، تعدّدت الأسباب والموت واحد.
هذا أفضل من بتر رجلي أو يدي، مثلما كان عندما كان بيتي يقع في منطقة ساخنة، فقد نالت قذيفة من قبل المسلحين الطابق الثالث في البناية التي أسكن فيها، وقبلاً أصابت قذيفة البناية التي خلفنا، فدمرت طابقين، ويومياً أسمع صوت القذائف وهي تنهال علينا، وعدّة مرات رحل السكان عن الحي الذي كنت أسكنه بسبب القذائف التي تأتينا من كل حدب وصوب، وكنت أعود إلى البيت ماراً بأطراف الجدران، وصوت القذائف يحاصرني من كلّ الأماكن، فأجد زوجتي تلملم ما سقط منها في البيت والشرفات، وهي تقول لي: لن أرحل.. لن أرحل.
يا إلهي، هل الموت بكورونا أفضل، أم الموت بالقذائف.. لا أدري.. لقد وجدت الموضوع، فقد بدأت عملية كتابة الرواية.
فيصل خرتش