“الديوان الاسبرطي” وتفاصيل يغفلها التاريخ
فازت رواية “الديوان الاسبرطي” للجزائري الشاب عبد الوهاب العيساوي،بجائزة البوكر الدولية للرواية العربية لهذا العام، والتي تنافست عليها مع رواية السوري خليل الرز “الحي الروسي”، واللبناني جبور الدويهي “ملك الهند”، والمصري يوسف زيدان “فردقان” والجزائري سعيد خطيبي “حطب سراييفو”.
ومن يقرأ رواية “الديوان الاسبرطي” لابد وأن تستوقفه تلك المشهدية السينمائية التي شكلت الحقائق التاريخية والاجتماعية مدماكها الأساس، وعليها تم رفع أعمدة البناء الدرامي المطرز بلغة ومفردات أدبية بالغة الإتقان،سعى من خلالها لتجنيب القارئ رتابة السرد التاريخي ولغته التقريرية عبر سرد مختلف لغة وأسلوباً يعبق بالحيوية والتشويق،فهو يعرف حيثيات الدور الذي تضطلع به كل شخصية من شخصياته التي يطلق لها العنان تعبر عن نفسها دون استطرادات جانبية أو مقاطعة من شخصيات أخرى ليستكمل بها الإحاطة بكل جوانب الرؤية الفكرية المطروحة في النص القائم على خمس شخصيات أساسية تتولى مهمة السرد بشكل متتال ومستقل عن الأخرى، لكنها تصب في ذات البحيرة المسماة حكاية المحروسة في القرن التاسع عشر، وهو أحد ألقاب مدينة الجزائر الذي عرفت فيه فترة الحكم العثماني للبلاد العربية.
تعود الرواية إلى عام ١٨٣٣ تضعنا في أجواء بدايات الحملة الفرنسية والذرائع التي بررت لها، والدور العثماني الحاكم للجزائر في ذلك الوقت، عبر خمس شخصيات تحمل أفكاراً سياسية واجتماعية متباينة ومتناقضة، في خمسة أقسام للرواية، يبدأ مع شخصية ديبون الصحفي الفرنسي المرافق للحملة الفرنسية التي انطلقت من ميناء طولون نحو مدينة المحروسة، وهو شخصية فكرية يؤمن بالعدالة الاجتماعية والحرية ويتطلع لتحقيقها في كل مكان متمثلاً فكر الفرنسي سان سيمون الذي ينظر لمجتمع جديد يعمه السلام والمساواة بين الفرنسيين وكل الشعوب الأخرى المجاورة لهم. لكنه يصاب بخيبة أمل بعد أن كان يعتقد أن هدف الحملة هو تخليص الجزائريين من ظلم العثمانيين، لا أن يحلّوا مكانهم ويمارسون دورهم ذاته.
ديبون يخوض سجالاً عبر رسائل متبادلة مع الشخصية الفرنسية الثانية في الرواية، وهو البحار كافيار الذي خاض معركة واترلو مع نابليون وأسره الإنكليز، لكنه يسعى بعد عودته ليحقق مجداً وأطماعاً ضاعت منه في هزيمة واترلو من خلال الحملة على الجزائر جاء لينتقم من العرب والعثمانيين هؤلاء المستعمرين الذين احتلوا البلاد العربية قروناً باسم الدين لكنهم لم يدافعوا عن المدينة،بل تركوا أهلها الغيورين يموتون على شواطئها.
هاتان الشخصيتان الفرنسيتان تقابلهما ثلاث شخصيات جزائرية هي ابن ميار رجل متدين يؤمن بالتبعية الدينية ولا يستبدل الفرنسيين بالعثمانيين، بقي يدافع عنهم رغم خذلانهم لأبناء جلدته،وظل يتطلع لعودتهم من جديد لتخليص المدينة من الفرنسيين، إلى أن امتثل للأمر الواقع وأقر بعدم جدوى الانتظار.
ابن ميار رغم التقائه مع حمّة السلاوي، الشخصية الجزائرية الثانية، في محبته للمحروسه، لكنه لم يكن يلتقي معه في أسلوب ممارسة هذا الحب الذي جسده حمّة نضالاً مسلحاً ضد العثمانيين والفرنسيين فيما بعد، وضد كل الانتهازيين والمتآمرين من الجزائريين على اختلاف مشاربهم الاجتماعية والقومية والدينية،تلك الشخصية التي مثلت ضمير الوطنيين الغيورين والحلم الجزائري والأمل بالمستقبل وقارب النجاة للمستضعفين والمسحوقين في هذا الصراع الملتهب سعيره في كل المجالات، هؤلاء الذين تمثلوا بشخصية الفتاة دوجة وهي الشخصية الرئيسية الخامسة التي وجدت نفسها مشردة في شوارع المحروسة بعد وفاة والديها وأخيها لتجد في حمّة أملها بالحياة.
مثلت دوجة في الرواية مدينة المحروسة المستباحة من العثمانيين والفرنسيين والتجار الجشعين،تلك الفتاة التي انتشلها حمّة من مستنقع البغاء الذي أغرقها فيه التاجر المزوار ليجعلها ملاذاً لطلاب المتعة الجسدية. “لو أعاد صديقي ابن ميار سيرة دوجة فقط لأدرك بسهولة أنها لاتختلف إلا بالقدر اليسير عن هذه المدينة”.
الرواية رغم أنها إعادة تدوير لحقائق تاريخية تحضر فيها شخصيات حقيقية،لكنها تتناول تلك الحقائق وفق وجهات نظر متعددة، وتأخذك إلى عوالم فيها الكثير من الحياة والأحداث الدرامية، فإذا تجاوزنا تلك الذريعة المعروفة للحملة المتعلقة بضرب الباشا للقنصل الفرنسي بالمروحة، فإنها تعيد رصد الكثير من التفاصيل الأخرى المتعلقة بالصراع السياسي والاقتصادي والجغرافي القائم في منطقة حوض المتوسط والتحولات الاجتماعية التي شهدت تطوراً في حالة الوعي العام حيال ماتشهده البلاد من استهدافات متعددة الاتجاهات، فالكاتب يعرج على تجارة الحبوب والرقيق، والقوى المتصارعة سواء الفرنسية أو العثمانية والإنكليزية والاسبانية والأمريكية وغيرها التي تستغل الضعف والتشتت العربي لنهب ثرواته، وهو مايلخصه على لسان ديبون الذي يقول لكافيار: “الاسبرطيون أشبه بالعثمانيين في أفريقية أمة لا تقوم إلا على قوة السلاح، والأتراك فقط من يملك كل شيء، أما العرب فلم يكونوا إلا عمالاً في مزارعهم”.
لكن الرواية تغوص عميقاً في التطورات الاجتماعية والسياسية للمدينة لتضعنا أمام وقائع وتفاصيل كثيراً ما يسقطها التاريخ من صفحاته،وأهدافه.
في الرواية رسائل حضارية توعوية عصرية يدعونا الكاتب لاستخلاصها من أحداث الماضي،يقول على لسان ديبو: “في القديم كان الناس يؤمنون بآلهة متعددة تتصارع فيما بينها، واليوم صاروا يؤمنون بإله واحد يتاجرون بأجساد بعضهم من أجله، أليس هذا ما كنت تريد قوله يا صديقي كافيار في كل مرة يحتد فيها النقاش بيننا حول مأخذك على المدينة التي أسميتها اسبرطة”.
رواية غنية بالأفكار والتفاصيل منسوجة بقالب متماسك ومشوق تستحق الجائزة والقراءة.
آصف إبراهيم