الطفل والإبداع
محمد راتب الحلاق
الإبداع شكل راق من أشكال النشاط الإنساني، والتقدم لن يتحقق من دون تطوير القدرات المبدعة والخلاقة عند الأفراد، لذلك تقوم الدول المتقدمة برعاية المبدعين من أبنائها، واستقطاب المبدعين من المجتمعات الأخرى، وتقديم كل أنواع الإغراء لهم.
وأهم ما يميز المبدع أنه غير نمطي في تفكيره. وقد تعددت تعريفات الإبداع باختلاف اهتمام الباحثين، وربما كان في التعريف الآتي ما يرضي الجميع: “الإبداع هو الوحدة المتكاملة لمجموعة من العوامل الذاتية والموضوعية التي تؤدي إلى إنتاج جديد وأصيل وذي قيمة”.
وللإبداع مستويان: المستوى العام، عندما يتوصل الفرد إلى حل جديد بالنسبة إليه لمشكلة ما، حتى وإن كان هذا الحل معروفاً بالنسبة لغيره. والمستوى الخاص، وهو الإبداع الحقيقي، الذي يؤدي إلى ابتكار حل جديد وأصيل وذي قيمة بالنسبة لمكتشفه وللآخرين.
والإبداع إما أن يكون منفصلاً عن منتجه كالنصوص الأدبية والأعمال الفنية التشكيلية والمخترعات التقنية.. إلخ، وإما أن يكون متعضياً مع مبدعه لا ينفصل عنه، كأداء الممثل المسرحي مثلاً.
وتقويم الإبداع والحكم عليه عملية معقدة، ويبقى الحكم النهائي والحاسم هو حكم التاريخ وحكم المجتمعات. مع ملاحظة هامة تقول: إننا ينبغي أن نحكم على الإبداع بما هو إبداع فحسب، بغض النظر عن استخدام الإنسان له، ولا عبرة للقيمة الأخلاقية أو الاجتماعية أو الإنسانية، أما إن استخدم النتاج الإبداعي استخداماً شريراً فالذنب ذنب الإنسان أولاً وأخيراً، لأنه لم يوجه هذا الإبداع لما فيه مصلحة البشرية.
وللمجتمع دور حاسم في تشجيع الإبداع وتنميته ورعايته، أو كبحه وإعاقته ووأده. وللبيئة، ولاسيما المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية والعلمية والفنية أكبر الأثر في هذا المجال.
ويبدأ الاهتمام بتنمية الإبداع منذ الطفولة المبكرة، عن طريق تشجيع الطفل على التفكير المستقل، وخلق الظروف المناسبة لتطور الاهتمامات والميول والمواهب، والحرص على عدم إكراه الطفل على العمل كما يريد الكبار، بل عليهم أن يتركوا له حرية التعبير بطريقته، لتجنيبه الصراعات الداخلية. وعلينا العمل في سبيل تشجيع التواصل بين الأطفال وتعويدهم على تقدير إنجازات زملائهم، وتمكينهم من المزيد من الأدوار الاجتماعية، ومواجهتهم باستمرار بمستويات محسوبة من التحدي التي يستطيعون تجاوزها إن هم بذلوا مزيداً من الجهد.
وفي المدرسة، وإضافة لما سبق، علينا أن ننمي عند الطفل مهارة التفكير الطلق، عبر جلسات عصف الدماغ وقدح زناد الفكر، بقصد تعويده على النظر إلى الأمور من زوايا متعددة، وعلى تقبل الاختلاف، ليدرك أن الحقيقة يمكن أن تتجلى في أكثر من صورة، مما يحرره من وحدانية الرؤية والرأي. كل ذلك في ظل إشاعة روح اللعب (العفوية والتلقائية والحرية)، وتعزيز المواقف المبدعة والطريفة والأصيلة، والتشجيع على التساؤل، وعلى إبداء الرأي الشخصي، مما يكون لديه منذ الصغر مهارة التفكير الناقد، وتحقيق الذات المستقلة، في جو يسوده الحب والاحترام والديمقراطية، كل ذلك يتيح للطفل تحقيق إنجازات تجلب له مزيداً من الثقة بالنفس.
ومما يحفز على الإبداع اتباع استراتيجيات في التعلم تقوم على الاستكشاف والاكتشاف، والاستقراء، ومواجهة المشكلات، والحرص على تعلم التفكير السليم، وتقبل الفروق الفردية، والابتعاد عن أسلوب التلقين.
ولابد من الإشارة إلى أهمية القيم التي تسود المجتمع في تنمية الإبداع وازدهاره، كالحرية والعدالة وتكافؤ الفرص، وعدم التمييز بين شرائح المجتمع، وردم الهوة بين قيمة العمل الجسدي والعمل الفكري، وهذا لن يحدث إلا في مجتمع يحترم العمل المؤسساتي، ويحترم القانون الذي يعطي للمواطنين حقوقاً متساوية، بغض النظر عن أية اعتبارات.