التجويع للتركيع
أحمد حسن
لم يكن الأمر مفاجئاً بقدر ما بدا مستهجناً في سياق عالم كورونا وتبعاته المتعددة، ففيما العالم يتداعى، ولو ظاهرياً، للتخفيف من الآثار الكارثية لهذه الجائحة، يقوم ترامب بإحراق حقول قمح في سورية خدمة لسياسته المبنيّة على معادلة واضحة: “التجويع للتركيع”. ما يؤكّد ذلك أن عملية الإحراق المقصودة هذه تأتي، زمنياً، على مشارف اقتراب موعد التطبيق الكامل لقانون “سيزر”، وهو، أي “سيزر”، كُتب بحبر المعادلة ذاتها.
بيد أن الأمر، وإن كان فجّاً وفاجراً في علنيّته، إلا أنه ليس جديداً في نوعه وجوهره، فالاقتصاد كان، كما يعرف الجميع، سلاحاً أساسياً في الحرب الدائرة في سورية وعليها؛ ومنذ لحظتها الأولى، كان الحصار الخانق سبيلاً لـ “ليّ” الذراع السياسي، لكنه كان سلاحاً ضمن أسلحة أخرى بعضها يفوقه خطورة، ومثالها الشهير قطعان المجاميع الإرهابية التكفيرية التي حظيت بتمويل وتسليح علني وأُطلقت لتستبيح الأرض السورية تحت تسمية “مقاتلي الحرية”، وهو اسم يجب ما قبله وفق فتاوى – وهي سلاح آخر أيضاً – دينية معتادة، وأخرى دنيوية مفاجئة صدرت من “معارضين” علمانيين، على ما قدّموا أنفسهم للعالم الحر!!
لكن نجاح الدولة السورية في التقليل من فعاليّة هذه الأسلحة المتعدّدة إلى الحد الأدنى، جعل من الاقتصاد السلاح الفعّال شبه الوحيد في المرحلة الحالية، والقادمة أيضاً. وبالطبع لم يفلح إغلاق القنوات الخارجية عبر الحصار المشدّد وحده – على خطورته وضرره البالغ – في إنجاز المهمة، فكان من الضروري تبديد الموارد الداخلية، وهذا ما حصل، فبعد تدمير البنية التحتية وسرقة المصانع – اختصاص أردوغان الأثير – وضع المحتّل الأمريكي يده على النفط – تباهى علناً بكيفية تصرّفه الحصري به – ثم جاءت مروحيات الـ “أباتشي” لتقوم بدورها في إحراق المحاصيل الزراعية ذات الطابع الاستراتيجي مثل القمح، لتكتمل بذلك دائرة القتل الاقتصادي العلني.
اللافت في الأمر أن أمراء الحرب في المنطقة المعنيّة، أي قوى الأمر الواقع، الذين طلبوا، تضرّعاً، من “السيد” أن يعفيهم من تبعات “سيزر”، لم يُسمع لهم صوت واحد – ولو معاتب بخجل – اعتراضاً على إحراق السيد ذاته للمحاصيل الزراعية في “محميّتهم” المفترضة.. التضرّع وعدم الاعتراض يؤكّدان ما يعرفه الجميع: هم، و”محميّتهم”، محميّة تابعة له بالمطلق، ولها، كما لأمثالها وأشباهها من المحميّات في المنطقة، استخدام وسيلة التضرّع لا حق الاعتراض. ولتغطية فضيحتهم هذه رفعوا الصوت، ولكن.. ضد الدولة السورية.
ولأن “الغيرة” طبع بشري معتاد، قام أردوغان، عبر مرتزقته، بإحراق محاصيل زراعية أخرى في الشمال السوري. وإذا كان صحيحاً أنه يقوم بذلك لحسابه الخاص، باعتباره محتّلاً آخر، إلا أن دوره الوظيفي، ومكانته كتابع، يسمحان لنا بالقول إنه، أيضاً، يقدّم لسيده الأمريكي أوراق اعتماد جديدة، ويقول: له نحن معك في تجويع الشعب السوري.
إنه الارهاب بوجهه الاقتصادي الفاجر. صمت العالم عنه، أو ضعفه وقلة حيلته حياله، عار إنساني وسياسي وأخلاقي، لكن الحق يقال أن الأمم المتحدة – وكالعادة بعد تجهيل الفاعل – “قلقة” للغاية لأن “هذا الإجراء يأتي في وقت قد يؤدي فيه وباء فيروس كورونا إلى انعدام للأمن الغذائي”.. هذا إرث ملك القلق الشهير بان كي مون، وهو إرث لا يُعوّل عليه، فما يُعوّل عليه واضح للغاية: إحراق الأرض تحت أقدام المحتّل.. ولا شيء آخر.