الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

فُجاءة

عبد الكريم النّاعم

كان السيد حسن نصر الله يتكلّم، وأنا أتابعه، فللسيّد صدقيّته، حتى أنّ الجمهور الصهيوني في الأرض المحتلّة يثق بما يسمعه منه أكثر ممّا تُطلقه قياداته من تصريحات.

فجأة قالت زوجتي فلان بالباب، فاستغربتُ، فأنا منذ زمن طويل لم أره، ولستُ ألومه فأنا لائذ بهذه العُزلة، وقد اعتدتُ عليها، ولا أكتمكم إذا قلتُ، أو أعدتُ القول، إنّني أصبحتُ أرتاح لهذه العُزلة، وأتهيّب الخارج كلّه، لما دبّ فيه من فظاعات، وشناعات.

كنتُ موزَّعاً بين أن أتابع السيّد، وبين الانصراف لضيف غير متوقّع، ولا أستطيع القول غير مرغوب فيه، فمَن زارك وجبَ حقُّه عليك.. المهمّ أنّني بعد أن سمعت معظم خطاب السيد، كان لابدّ من الانصراف لحضور الضيف، وإظهار البشاشة المُفْتَقَدَة له، على ما بيننا من مسافات صحراويّة، زادتْها وحشةً أنّنا من مدرستين مختلفتين في النّظر إلى الأمور.

لفّ رجلاً على رجل، وبدا وكأنّه قد وجد فرصته للكلام، وهو بطبيعته يميل للمناكفة، فقال بلهجة لا تخلو من الاستغراب: “شو عدا ممّا بدا، حدّ علمي أنّك عَلْماني؟!”.

قلت متجاهلاً ما ذهب إليه: “لم أفهم”.

قال: “عَلْمانيّة وانشداد لِما يقوله شيخ مُعمَّم، وإعجاب به”؟!!

قلت: “أثرتَ أكثر من نقطة، العَلْمانيّة، كما أفهمها، لا تعني الإلحاد، فثمّة عَلمانيّون مؤمنون، وثمّة عَلمانيّون مُلحدون، والعلمانيّة وجهة نظر في كيف نتعاطى مع الواقع بأبعاده الماضية، والراهنة، والمستقبليّة، تنأى عن التعصّب المذهبي والطائفي، والإثني، وتدعو للمواطنة الصالحة القائمة على التعدّد والديموقراطيّة، وأنا مُعجَب بصدقيّة هذا الرجل القائد، الذي لا يستطيع حتى أعداؤه أن يتّهموه بالكذب، وهذه ناحية أخلاقيّة قلّما يتمتّع بها زعماء ورؤساء كثيرون.

النقطة الثانية أنّني مُعجَب بإصراره على تحرير الأرض المحتلّة، وبظنّي أنّ هذه أوّل مقاومة في التاريخ تستطيع إنجاز ما أنجزتْه، فهي ليست دولة، بل حزب في دولة، وحزب يُحيط به من أهل بلده المغامرون، والمرتبطون بحبال سريّة، والكارهون، والذين لا شأن لهم إلاّ تحطيم سمعة هذا الحزب، تنفيذاً لإرادات ورغبات خارجيّة، لا تُخفي علاقتها بها، بل وربّما فاخرتْ بعمالتها، فالعمالة لديهم وجهة نظر!!.

أعطني فيما نعرف من التاريخ أنّ (حزباً) موجوداً في دولة، وذات بنية مجتمعيّة كالمجتمع اللبناني تمكّن من أن يُلجم جموح عدو على حدود بلاده، وهو عدو في التقييم يُعدّ جيشه خامس جيش في العالَم، وقد أُنشئ منذ أن كان، ليكون قادراً على التصدّي لمجموع جيوش العرب المحيطين به، ورغم كلّ الدعم الأسطوري له من واشنطن وعواصم الغرب، فقد تمكّن هذا الحزب، بمن دعمه وآزره، أن يُذيق العدو الصهيوني مرارة الذلّ والهزيمة، وأن يصل إلى مرحلة التّوازن بالرّعب، فيكبح من جماحه، ويُوقفه على رِجْل ونصف، فخامس جيش في العالم يقف عاجزاً مشلولاً، أعْجزتْه هذه المقاومة الفريدة، فكيف لا يُعجَب وطنيّ عاقل بذلك، بل ويعتزّ؟!”.

قال بلهجة غير مريحة: “ولكنّه مُعمَّم”.

قلت: “أستطيع فهم مراميك، أنا أتحدّث عن الإنجاز على الأرض، وأنت تريد الذهاب إلى ما يستحضر تاريخاً مضى، ويُفترَض أنّه انتهى، إلاّ عند البعض، فأنا لي من هذا السيّد صدقيّته، وما أنجزتْه المقاومة، بمَن معها، وأضع أكثر من خطّ تحت “ومَن معها”، لأنّه، باعتراف السيد لولاها لما تحقّق ذلك الإنجاز، ثمّ إنّني لم أسمع هذا التيّار يدعو إلى مذهب ما ليُلزم الناس به، بل ما هو عليه من اعتقاد يخصّه وحده، ولا يفرضه على الآخرين، على عكس دعوة “الإخوان المسلمين”، والدواعش والنّواهش..”.

قدّمت سيّدة المنزل القهوة فانقطع الكلام.

aaalnaem@gmail.com