عن الرواية
محمد راتب الحلاق
وجد المصلحون في الرواية فرصة لتمرير رسائلهم التنويرية، لانفتاح هذا الجنس الأدبي الجديد على شؤون الحياة، ولأنه يتحمل مستويات متعددة من الخطاب نظراً لتعدد الشخصيات، وتفاوت مستواها، واختلاف مواقعها، ما جعل الرواية قادرة على استقطاب قراء من شرائح اجتماعية متعددة. وساعد في ذلك عزوف كتاب الرواية عن الاحتفال بالجزالة الأسلوبية والبلاغة اللفظية التقليدية، مذكرين القراء بأشكال تراثية من السرد والحكي، ما أدى إلى اتهامهم في البداية بالركاكة، فطالب مصطفى صادق الرافعي بمحاكمة كتاب الروايات بتهمة “الفجور بالكتابة”.
لكن الرواية استمرت بدأب في تأسيس لغتها وخطابها المختلف، إلى أن وصلت أخيراً إلى لغة فيها الكثير من روح الشعر وجمالياته، واستطاعت أن تنجز شكلها الخاص، وواقعها الفني المستمد من خصوصية الواقع العربي. واستطاع الروائيون العرب إنجاز أعمال تضاهي ما تنتجه الأمم الأخرى من حيث الأشكال والمضامين.
وقد اختلف النقاد العرب حول المراحل التي مرت بها الرواية العربية باختلاف المنطلق الذي اتخذوه معياراً في التصنيف، وسأستعير بكثير من التصرف تصنيف الناقد محمد برادة الذي قسم الزمن الروائي العربي إلى ثلاث مراحل هي:
1 – مرحلة التجنس والانتساب، وأسميها “مرحلة التخلق”. وفي هذه المرحلة تمت استعارة الشكل الروائي الغربي، وإن بكثير من التصرف الناجم عن القصور. كما تمت استعارة المضامين الغربية بعد إلباسها لبوساً عربياً. وفي هذه المرحلة بدأ السرد يتلمس أسلوبه الخاص.
2 – مرحلة الوعي بالسمات والحدود الفنية، وأسميها “مرحلة التعين”. وتميزت بالقدرة على بناء الشخصيات، وبروز النواحي الفنية والتقنية، والانعتاق من مقولات الخطاب السائد لحساب النواحي الفنية والتقنية والجمالية. وفي هذه المرحلة بدأت تظهر بعض الأسماء النسائية المهمة.
3 – مرحلة الكينونة المتكلمة والبحث عن أشكال جديدة متمايزة، وأسميها “مرحلة التجاوز”، والتي جاءت زمنياً بعد هزيمة حزيران، وانسداد الآفاق أمام المواطن العربي. في هذه الأجواء من الإحباط السياسي والاقتصادي، استطاعت الرواية أن تنهض، وأن تحقق قفزات تقنية وفكرية، من خلال جدلها مع الواقع العربي ومساءلته، غير مرتهنة لظهير أيديولوجي متنفذ يسندها ويحدد لها آفاقها والهامش المسموح لها بالتحرك ضمن مساحته. وانحازت إلى القاع المهمش والمحبط والمغيب. وتقدمت لتمارس مغامرتها الخطيرة، فانتقدت بجرأة وصراحة أحياناً، ومن وراء حجب الفن التي ابتكرتها في بعض الحالات الأخرى، ساعدها في ذلك تقبل القراء وتشجيعهم، بعد أن وجدوا في شخصيات الروايات من يتكلم باسمهم. وكان القراء العاديون أسبق من النقاد في التقاط التجربة الروائية وتشجيعها، يدل على ذلك تعدد طبعات بعض الروايات. وما ساعد الرواية فقدان الأمور وضوحها المزيف، بعد أن ظهر عقم الإجابات التي كانت تقدمها السلطات، وبعد أن سقطت ورقة التوت عن سوأة الخطاب الجاهز الذي مافتئت تردده بعض الجهات المستفيدة أو المضللة، فتقدمت الرواية لتثير الأسئلة الجريئة والمربكة التي كانت تختنق في صدر المواطن، بعد أن كان الروائي العربي مخدوعاً أو مضللاً أو خائفاً (أو كل ذلك معاً).
وتبرز في هذه المرحلة أسماء كثيرة تزداد فيها أسماء الروائيات من النساء أكثر من المرحلتين السابقتين. وهكذا فقد شكل تعثر المشروع القومي حافزاً لتقدم هذا الجنس الأدبي، بعد أن انكشف زيف كثير من المقولات التي كان يتم ترويجها لتأجيل أحلام الناس، وتكفلت الرواية بالتعبير عن الهوية الثقافية الحقيقية للأمة، ومحاولة إنجاز حداثة عربية، تقوم على الانتقاد ومحاربة الفساد ورفض الجمود والتكلس.