تحقيقات

التربية.. مفاهيم مثقلة بأفكار الماضي.. و الحلول من بوابات الحوار

حقائق التربية ليست طقوساً تنقل بالوراثة، أو تعاويذ تنشر بالإيحاء، بل إنها حقائق تستخرج من علوم راسخة، وسبيل استخراجها لايتوقف على مجرد القراءة، بل لابد من طرق إفهام ذكية وأساليب واعية، لتخلق جواً من الفكر الإنساني القائم على البحث والتمحيص والمناقشة. ولعل من أبرز مظاهر الفكر البشري هو عامل الحوار، فهو الآلية التي من خلالها يستطيع الإنسان اكتشاف ذاته وتأكيدها، وكذلك إعلان غايته. فبالعقل والفكر امتاز الإنسان عن غيره من الكائنات الحية، فهو يستطيع أن يّؤثر أو يتأثر من خلال كلمة يستطيع أن يصيغ عبارة لينقل إلى الآخرين فكرة أو معلومة، أو بشارة أو تحذيراً. ومن جانب آخر فإن جميع العلوم والمعارف الإنسانية لم تتطور إلا بالحوار، كذلك قيم الأمن والعدالة  لا تتعلق إلا بالحوار، بل إن أمور البيع والشراء لا تكون إلا بالحوار . إن مبدأ إعمال الفكر وتنشيط العقل هو الضمانة الأولى في التربية السورية، فإذا قلت هذه العناصر في بيئة ما اضمحل أمر التربية وذبلت أغصانها كما تبلى الشجرة الباسقة في أرض ذهب خصبها وجفّ ماؤها، فعلى قدر ذكاء المرء واستقامة عقله واستنارة فطرته، تكون عوامل النجاح في التربية. إن التربية الحوارية هي عكس التربية المبنّية على سحق الشخصية، إنها تنطلق من قاعدة وركيزة أصيلة ألا وهي قاعدة التعقل والتفكر والاقتناع، هذه القاعدة تعني اعتبار العقل قوة صالحة للحكم على الأشياء، وميزاناً دقيقاً نزن به صحة القضايا وفسادهها. لقد اعتبر علماء الأصول العقل دليلاً على الحكم الشرعي في كثير من الحالات التي نعرف مقاصد الشرع فيها، على هذا الأساس تفهم مدلول الحوار أنه يرمز إلى العقل الواعي الذي يصول ويجول، ويحاكم ويجادل، فالديّن الذي يحترم العقل لا بد أن يفسح له المجال ليقدم مالديه من حقائق ومفاهيم ونظريات. هذه الركيزة – احترام العقل واعتماده سيداً للأدلة – هي السبيل الصحيح للتربية، فهي ترفض التقليد لأن في التقليد ابتعاداً عن الخط السليم، وإبقاء للضلال الموروث، ومعنى هذا اليأس من  تصحيح الانحراف. إن استمرار الجمود التربوي يعني استمرار قداسة الماضي في نفوس الناس، وهذا معناه استمرار حياة العبث واللامبالاة، إن من مدلول كلمة التربية بالحوار، أن يتسابق العقلاء إلى المناقشة الهادفة في ميادين العلم ومجامعه وصفوفه ليدرسوا الأفكار والنقائض، ولنسمع شتى الآراء مع تأمين قائليها، ولتناقش الأفكار جهرة دون حرج أو استحياء أو إرهاب .

تباين الأفكار
إن أصول الأخلاق وأمات الفضائل وأصول الرذائل قد اتفق العقلاء عليها، نعم إن تباين الأفكار ضرورة اجتماعية، وسمة حضارية، ولن يخلو من ذلك تاريخ الإنسانية إلا إذا رجع الناس أمة وأمزجة واحدة، وهذا مستحيل، وهذا يدعو إلى المقاربة والتسديد. إن أصحاب التربية المستنيرة يريدون للإنسان – من خلال الحوار – أن يصل إلى القناعة الذاتية المرتكزة على الحجة والبرهان، فلكل سؤال جواب، ولكل منعطف إشارة، ولكل علامة استفهام علامات تضيء. وهذا شيء مهم ورائع في أسلوبه و نتائجه، فعكس ذلك لايمثل إلا التربية الاستبدادية. وثمة شرط مهم في قضية التربية بالحوار ألا وهو مراعاة الأسلوب الهادئ الرصين، فلا نركّز في سلوكنا على الألفاظ والإشارات التي تعمل على إيلام الخصم وأهانته وإهدار كرامته، بل لابد من مراعاة مشاعر الآخرين وعواطفهم ولابد من التماس الأعذار للناس، خاصة أولئك الذين نشأوا في بيئات آسنة تماماً. إن عنف الأسلوب لايؤدي إلا إلى مزيد من الحقد والعناد، وهذا يؤدي بالضرورة إلى جمود التربية لاحتدام الصراع واستحالة الإقناع. أما الأسلوب الهادىء وطريقة اللاعنف فهي تؤسّس المحبة فتُفتح الأبواب الموصودة، وهذا يؤدي بدوره إلى النتائج المأمولة. وهنا لابد من الإشارة إلى أن المستبدين في بيوتهم يلدون عبيداً لغيرهم، فلا يمكن أن يوجد إنسان حر مع تربية غير حرة.

إبراهيم أحمد