في انتظار عدم الانتظار!؟
د. نهلة عيسى
لا شيء مما يحدث في أمريكا رغم “ميلودراميته” البالغة، إضافة لردود الفعل الموضوعية والمتشفية عليه في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، أغراني بالمتابعة أو حتى الفرجة، لأنني أرى فيه ملامح “فوتوكوبية” لما جرى في بلادنا، رغم اختلاف الدوافع والأهداف، ولأنه – كالعادة – غُيبت الأسباب الجوهرية لما حدث، ودخلنا دائرة الطغيان البصري، فتصدرت التفاصيل وتفاصيل التفاصيل والصور المشهد، والعالم الآن في الواقع يتابع الصياغة الشعبوية “التبسيطية” العصرية لقصة سندريلا وحذائها المتروك كنداء استغاثة موجه إلى الأمير، حيث الخالة (زوجة الأب في القصة القديمة) مجرد فرد، وحيث ترامب في الصياغة العصرية مجرد فرد!! فيصبح الانتصار سهلاً، ويتناسى الجميع ماضياً وحاضراً أن المشكلة ليست في الخالة زوجة الأب، ولا في ترامب، بل في الأب الذي أتى بزوجة الأب وترامب، وأن القصة في النهاية ستزوج الفقيرة للأمير كترضية للمتابعين، وستسدل الستائر وكلاهما يحلمان بالبنات والبنين، فينقلب المشاهدون إلى متابعة روايات أخرى، ألم أخبركم يوماً أن “الوفرة تعني اللامعنى”!؟
لا شيء مما يحدث في أمريكا يدفعني للفرجة!؟ فعشر سنوات قبح في وطني حولت كل نار العالم في نظري إلى قمامة كلام، ورماد، والمخيف في الرماد أنه كائن حي مثله مثل النار، بل يفوقها خطورة لأنه – على عكس النار الهوجاء – هو كائن حي ليس لقيطاً، يعرف أباه وأمه، ويحمل ذاكرة، والمشكلة أن ذاكرته مريرة، ولكنه يجيد الخداع، واسألوا الجدات، سيقلن أنه واحد من أفضل الأدوات في إزالة الأوساخ، رغم أنه مجرد وسخ نار.. أعود فأذكر: البصر ليس منجاة من العمى!!.
لا شيء مما يحدث يغريني بالمتابعة!؟ فها هو السيد كورونا يغادر المسرح مكرهاً، لأن حكاياته المثيرة المرعبة لم تعد تثير أحد. وفي عالم الفرجة، أهمية القصة ليست مرهونة بالحقيقة، ولا الخطورة، ولا بحجم المتضررين، ولكن بنسب المشاهدين؛ وجورج فلويد في موازاة ترامب يتصدران الشاشة الآن، مع التنويه إلى أن فلويد القتيل مجرد توطئة للحكاية، وتفصيل صغير، كومبارس، وباب إلى العالم المسحور حيث الحيتان، والديناصورات يتصارعون، والأرانب يتفرجون بانتظار ظهور البطل.. و”بيني وبينكم”، أنا لست في انتظار بطل، ولا أبحث عن بطل، وأكره سندريلا وحذاءها وأميرها، وأمقت الأحصنة البيضاء، والأساطير الشعبية، وسير الزعماء، وحكم الأولين والمحدثين، وقاعات الشرف، وباقات الزهور، والأوسمة على الصدور، وأقف وحيدة، أو ربما مع قلة لا أعرفهم، بانتظار من لا ينتظرون بطلاً!؟
لا شيء مما يجري في الكون كله يغريني بأن أعرف!؟ أنا في حالة التعرض غير المباشر للأخبار والأحداث، ويمكنكم تسميته بالقسري، لأن الكاميرات والشاشات باتت جدران، وأجهزة هواتفنا المحمولة صارت أشبه بالأمهات تملين علينا قواعد السلوك، ومن نرافق ومن نعادي، وما هو مقبول وما هو غير مقبول. تمجدت أمهاتنا البيولوجيات في السماء وفي الأرض، فقد كن ينمن – على الأقل – لبضع ساعات، بينما أمهاتنا الالكترونيات لا ينمن ولا يسمحن لنا بالنوم، ولا يسمحن لنا بالتجربة المباشرة لنعرف هل نحن نمثل، أم أننا نعيش!؟
أعود للقول: لا شيء يغريني بالمعرفة، ولا أريد أن أعرف إلى أين ستؤول الحكايات، ففي الصياغات العصرية لوقائع الحياة ليس هناك من نهايات، بل متاهات تقود إلى متاهات، وروايات محدثة لمرويات، و”غودو” المنتظر منذ عقود لم يأت ولن يأتي، كل ما حدث أن أعداد المنتظرين قد زاد، وربما لم يعد الانتظار بأمل الخلاص، بل بأمل الفضول، المتعة، الفرجة، وأنا ليس لدي فضول، وأكره الفرجة، وأعرف أني لن أعرف الحقيقة، لأن الحقيقة بمليارات الوجوه، ولذلك لا أنتظر سوى من لا ينتظرون، لأن هؤلاء وحدهم من يصنعون حقاً الحكايات، وربما هم كل الحكاية.