الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

لوعة الغياب

د. نضال الصالح

ما سبق من علامة لغوية لهذه المادة هو ما كان الروائي الراحل عبد الرحمن منيف اختاره علامة لأحد مؤلفاته غير الروائية، وهو ما يبدو الأكثر بلاغة في التعبير عن قسوة الفقد الذي تكابده الثقافة العربية، ولاسيما إذا كان الفقد يعني علامة من علامات هذه الثقافة خلال العقود الأخيرة من تاريخها الحديث.

استعدتُ هذه العلامة وأنا أقرأ خبر رحيل الشاعر ممدوح السكاف، أحد أبرز أعمدة الحركة الشعرية السورية منذ عقد الستينيات، الذي أثرى المكتبة العربية بسبع مجموعات شعرية، واثنتين للأطفال، وكتاب عن ابن مدينته، الشاعر عبد السلام عيون السود.

ما يزيد على ثمانية عقود بسنة وأشهر من أخرى هو العمر الزمني لممدوح السكاف، وما يزيد على أبد هو العمر الإبداعي له، وفيما يعني كليهما، الزمني والإبداعي، كان الشاعر شديد الوفاء لمدينته حمص، وعاشقاً لها، فكما اختار البقاء فيها وعدم مغادرتها إلا لوقت قصير، حرص على تشجيع المبدعين من الشباب من أبنائها، ومكّن الكثير منهم من الجهر بإبداعه من خلال منبر الاتحاد الذي ترأس فرعه لنحو عقدين من الزمن، وأكّد، طوال حياته، مبدعاً وإنساناً، أنّ الكتابة فعل رسوليّ بامتياز، وإنها إن لم تكن كذلك فهي محض حضور زائف وطارئ، ومحكومة بالموت لحظة الولادة.

ولعلّ أبرز ما ميز الراحل الكبير أنه لم يكن شاعراً بحقّ فحسب، بل إنساناً بحقّ أيضاً. ومن بعض قرائن انتمائه إلى الإنسان كما يليق بالإنسان، اعتذاره عن مهمة رئاسة اتحاد الكتّاب بعد د. علي عقلة عرسان، أي في الدورة السابعة، معللاً ذلك بعدم قدرته على الابتعاد عن مدينته حمص والإقامة في دمشق، والحقيقة أنه أبى أن يخلف عرسان في المهمة احتراماً منه وتقديراً لتاريخ الرجل في مسيرة الاتحاد مهما يكن من أمر الاتفاق أو الاختلاف معه، وتعبيراً لبقاً عن استنكاره للطريقة التي تم من خلالها إبعاد عرسان عن رئاسة الاتحاد، وكذلك فعل الراحل المبدع خليل جاسم الحميدي الذي اعتذر هو الآخر عن المهمة استجابة للقيم نفسها، فكان ما كان من شأن الاتحاد بعد ذلك.

مطلع سنة ألفين وست عشرة، وخلال مشاركتي في اجتماع للمكتب الدائم للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب في أبو ظبي، تفضل الصديق د. حسان فلاح أوغلي، بالاتصال بابن الأستاذ ممدوح، المقيم في عمّان، وعبره حدّثت الأستاذ ممدوح، واطمأننت على صحته، ووعدته بتكريمه في مدينته حمص، وهذا ما وفيت به بمشاركة كبار من أبناء جيله أمثال عبد الكريم الناعم وفرحان بلبل.

برحيل ممدوح السكاف تخسر شجرة الشعر العربيّ، لا السوريّ وحده، غصناً فارعاً من أغصانها الوارفة، غصناً منح الحركة الشعرية العربية المعاصرة قيمة مضافة إلى ما سبقه من نسغ الشعر العربي، بل الحداثة الشعرية العربية على نحو أدقّ.

وبعد، فأيّ رحى خشنة تلك التي تلتهم قاماتنا الثقافية العالية منذ سنوات، من قمر كيلاني إلى صميم الشريف إلى حنا مينه إلى… أيّ لوعة غياب!