زُخْرُفُ القول
د. نضال الصالح
الزخرف ما ليس أصلاً في الشيء، بل مضاف إليه، ومن معانيه: التزيين، والتحسين. ولابن سيده قوله: الزخرف الذهبُ، ثم سُمّي كلّ زينة زخرفاً، ثمّ شُبّه كلُّ مُموّه مزوَّر به. وفي التفاسير، ومنها زاد المسير لابن الجوزيّ، أنّ المراد بزخرف القول تزيين الباطل. ومن بديع شعر ابن الروميّ: “في زخرف القول ترجيحٌ لقائله: والحقُّ قد يعتريه بعضُ تغييرِ/ تقولُ هذا مُجاجُ النحل تمدحه.. وإنْ ذممتَ قلتَ قيء الزنابيرِ/ مدحاً وذمّاً وما جاوزتَ وصفهما.. سحرُ البيان يُري الظلماءَ كالنور”.
لا يُحسن زخرف القول سوى ضرب من الناس هو المخادع الذي يستخدم ألفاظاً وتعبيرات ظاهرُها جميل وباطنُها قبيح، فيعمل عمل المشعوذ، ويوهم الآخرين بأنّ ما يقول أو يفعل هو الحقيقة بينما هو الزيف، فيقبّح الجميل ويجمّل القبيح، ويُبطل الحقّ ويُحقّ الباطل. ولا يسقط ضحية هذا الزخرف سوى ضرب من الناس أيضاً هو الذي ارتضى لعقله العطالة، أو الاستقالة من العمل، حتى ليبدو كالإناء الفارغ الذي يمكن لمن يشاء أن يسكب في جوفه ما يشاء.
ومن أمثلة زخرف القول الإرهابي شمعون بيريز رئيس وزراء الكيان الصهيوني الأسبق، وعرّاب ما سُمّي اتفاقات السلام بين كيان الاحتلال والسلطة الفلسطينية وبعض الدول العربية، الذي كان يجمّل صورته بوصفه داعية سلام، فيوهم العالم برغبة الكيان في تحقيق سلام مع الفلسطينيين والعرب، بينما هو يمطر الأطفال والنساء والشيوخ في قانا بالموت. ومن أمثلته أيضاً مراكز الأبحاث والدراسات التي تقدّم أمريكا بوصفها حارسة الديمقراطية، والمدافعة عن حقوق الإنسان، والحرية، والعدالة، بينما هي في الواقع تغزو، وتقتل، وتسفك الدماء، وتحتل بلاداً، وتنهب، باسم الدفاع عن الديمقراطية، والأمثلة التي تؤكّد أقوالها الزخرف تلك تضيق بها مجلدات، وآخرها ما قد يُسمى في المستقبل ديمقراطية الرُكب، أي تلك التي يطأ الرجل الأمريكي الأبيض باسمها عنق أحد الملوّنين، حتى يخمد أنفاسه، كما حدث مؤخراً للأمريكي من أصول إفريقية جورج فلويد في مدينة مينيابوليس في ولاية مينيسوتا.
في الليلة التاسعة والسبعين من ليالي “ألف ليلة وليلة” ينقل الثعلب عن الحكماء قولهم: وقد يصلح كلّ شيء إلا فساد الجوهر، ثم يحكي للذئب حكاية الحية التي هربت من حاو، فرآها رجلٌ وهي ترتعد خوفاً، فسألها: ما شأنك أيتها الحية؟ قالت: هربتُ من الحاوي، فإنه يطلبني، فإنْ أنجيتني منه، وأخفيتني عندك لأحسنن مكافأتك، وأصنع معك كلّ جميل. فأخذها اغتناماً للأجر، وطمعاً في المكافأة، وأدخلها في جيبه، فلما فاتَ الحاوي ومضى إلى حال سبيله، وزال عنها ما كانت تخافه، قال لها الرجل: أين المكافأة فقد أنقذتك مما تخافين وتحذرين؟ فقالت الحية له: أخبرني أيّ عضو أبدأ نهشك منه؟
وبعدُ، وقبلُ، فقد يكون في كثير من العسل كثير من السمّ، وخلف كثير من زخرف القول كثير من الباطل، وتحت قفازين من الحرير مخالب ثعلب.