الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ضجيج الذاكرة

سلوى عباس

كتب حائراً متسائلاً عن سبب فتور حلّ بحبهما: لا أدري لما أحسها بعيدة عني.. كلما هتف القلب لها ما فيه ناء الصوت منها، وبدا صدى. كلما همت روحي على يدها أحسست فارق الدفء بين راحتها وتلك اللمسة الأولى. كيف خمد ذاك التوهج الهنيء؟! كيف لوت قرنفلة قلبها احمرارها؟! وتلك الغمامة الندية التي توسدت روحي أين تبعثر غيثها؟! قد تكون حالة ارتباك وإحباط عام تمر بي. تركت لقلبي أن يحكي ما أحس. كيف تشتاقني عادة؟! كدت أنسى! اليوم أحتضن صوتها البلوري الشفيف الذي أحب، فيأتيني كما سراب أو صدى. أسمع صوتها ذابلاً موجوعاً يواري ارتجافه عني ويطرز فوق ألمه بعضاً من ابتسامات لا يخفى عني أنينها! أسمعه مسبوكاً في قالب من عدم الوضوح.. أحاول أن تطمئن قلبي المرصود لأفراحها وأحزانها، أحاول أن أعرف كيف حدث هذا الانكسار، وما الذي أغرق ذلك الصوت الرنيم في بركة التعب والانطفاء، فيأتي ردها في منظومة الإبهام والتهرب، فيزيد هذا فيّ قلقي وانشغالات بالي عليها، وهي تعرف كم يعنيني أن تكون معافاة دائماً ومشرقة، وتمور بالصحة كتفاحة يانعة، وكم يهمني أن لا يعكر شيء صفو صوتها الجدولي الذي ينساب في روحي سريعاً يؤلّقني ويسقي عشبة الحب التي زرعتها هي في قلبي. أخبريني، ولا تغلقي باب عذاباتك عليك وتتركيني على رصيف حيرتي وارتباكي. أخبريني لأني نصفك الذي يحمل من أوجاعك وجعاً، ومن أحزانك حزناً! دعيني أحمل عنك بعضاً منها، ولو أوتيت فرصة صغيرة لحملتها كلها.. تعالي نتقاسمها على الأقل!

****

كلما احتدمت فيه أشواقه لجأ إلى رائحة الكتاب الذي تركت فيه بعضاً منها. يكاد لا يقرأ فيه شيئاً حتى تأخذه الرائحة إليها، تشده بعيداً عن أريكته وعن كل ضجيج الناس والزوار وأناشيد الأطفال التي تتسرب من خلال النافذة، تأخذه إليها قرب البحر، تأخذه لشذى يديها، لصوت ضحكتها الشفيفة ترش على روحه مطرها الربيعي.. تلك التي تنبع من الذرى الوردية للاشتياق، كما رشة ماء على التراب تنبت شيئاً من السلام حول الروح المتواثبة إليها رغم أثقالها وكل أقفاصها، عصفوراً من الرغبات والشوق مغلق الأماني، مسكوناً بالتحليق على شواطئها كنورس، مزروعا كنبتة حبق على طرف بابها البعيد.

تتبدى له ملاكا من النور والرغبات يحط على قلبه فلا يجرؤ أن يلامسه كي لا يطير. يحاول أن يفتح شرايينه له شركاً وعلى حين غبطة يلّمه فيه ويغلق كل منافذه، ثم يجعل من كل أجزائه له فضاء. لا يستطيع أن ينسى ابتسامات تغير مسارات الشمس وتوقف الأزمان وتلغي الأمكنة، تهطل غيثاً في الصيف وتولع الربيع في حديقة.. هي من تحمل الأفياء في حقيبتها، ومن بين أصابعها يهل القمر. تنبت له فردوساً وارفاً من سجاياها وتنهض فيه اختلاجاته الملونة.. هي من يرمي قلبه في حضنها تهدهده كطفل بكى طويلاً قبل أن يهدّه الدمع، ويغفو.. كريح عبثت طويلاً بالماء والتراب قبل أن تلتقي صفصافاً يهدئ روعها.

هذه الحكاية تشبه الكثير من الحكايات التي سمعناها أو عايشناها من حيث شغف الحالة وتتكرر في الحياة كثيراً، لكن كيف لأقدارنا أن تسير بهذا المنحى، وكيف تتغير قناعاتنا وأفكارنا؟! فمن المفارقة العجيبة أن تبدأ الحياة بهالة من الألق لتخبو فجأة وينقلب كل شيء إلى سراب! ومن يغفر لامرأة ربيعها موقوت لقطرة من ندى الحب توقظ أضلاعها من نعاسها الطويل؟! ومن ينقذ قلبها من ضراوة الهم ويمد لها يداً من حنين تنتشل روحها من معاصر الحزن؟! وهي التي رغبت أن تعيش صدق ذاتها وقناعاتها، بعيداً عن زيف يقتلها كل لحظة لترضي الآخرين وتخسر روحها!