ثقافةصحيفة البعث

“ليون الأفريقي” رواية الهوية الضائعة المنسية

على القارئ هنا أن يتجهز لينطلق في رحلة إلى أعماق التاريخ، سيقرؤه على شكل قصة، سيكون متنقلاً بين ممالك تسقط وامبراطوريات تبزغ، بين شموس تغرب وأخرى تُشرق، بين غرناطة الضائعة وفاس الحائرة، تمبوكتو المحترقة والقاهرة، مكة، تونس، القسطنطينية وروما، عوالم مختلفة سيتجول فيها القارئ مع “الوزان” الذي انتهى به المطاف ليصبح ليون، من خلال الصفحات الأولى سيدرك القارئ بأن الكاتب أمين معلوف يملك قدراً هائلاً من المعلومات التاريخية، وأنه يريد توثيق جميع هذه الأحداث، وتذكير القراء بها، فهيأها جميعها في سيرة حياة بطل روايته الحسن بن محمد الوزان.

في هذه الحكاية، نرى التاريخ يُسرد مع إضافات عجيبة، يتخللها الحب، الخمر، التشرد، الحرب، الغنى الذي يليه البؤس في صورة تشي كما هو معروف بأن دوام الحال من المحال.

امبراطوريات تحكم وتتسلط، بينما أخرى تسقط وتنمحي، حكم تتجلى خلف كل باب من أبواب هذه الرحلة، ربما تعد رواية “ليون الأفريقي” من أساطير الروايات التاريخية التي تأخذ المسار الأدبي البحت، رواية تحرّى فيها الكاتب الأمانة التاريخية والحيادية الشديدة تجاه فترة حساسة من التاريخ الإسلامي، وهي فترة سقوط غرناطة ونهوض الامبراطورية العثمانية، وتغيرات سياسية عديدة شهدتها الساحة الإسلامية حينذاك. الحسن بن محمد الوزان، المعمد باسم يوحنا – ليون دومديتشي، على ظهر سفينة برفقة زوجته مادالينا وابنه جوزيف (يوسف)، متجهة من نابولي (ايطاليا) إلى تونس، يكتب على متنها قصة سنواته الأربعين التي عاشها متنقلاً من مدينة إلى أخرى، ليشهد أحداثاً تاريخية لسقوط امبراطوريات واحتراق مدن واحتضار أخرى، يكتب مخاطباً ابنه يوسف – أربعة كتب عن أربع مدن سكنها سنين عدة، وكانت تمثل في كل مرة منعطفاً جديداً في حياته.

كتاب غرناطة 1488-1494

عن السنين الأخيرة لغرناطة المسلمة، الأنفاس المتقطعة قبل احتضار المدينة، مكان مولده، يبدأ الراوي حكايته بسرد مجموعة أحداث ماضية عن تاريخ ولادته، فيحكي قصة والدته سلمى الحرة، والغريب في هذه الرواية أن ليون السارد، أو معلوف الكاتب، فضل ذكر أسماء الأبوين، وتخلى عن لفظتي الأم والأب، وربما هي وسيلة لجعل الكتاب أكثر موضوعية وإقناعاً. عالم سلمى الحرة قربنا من غرناطة الجنة المزدهرة، والخطر المحدق بها من جراء تنافس الملوك واقتتال الأبناء والآباء، مع كل عام نتعرف على شخصيات جديدة وأحداث أكثر، فنقرأ عن صراع الفقهاء (شخصية أستغفر الله المثيرة)، والعلماء (الطبيب أبو عمر)، كتاب يشرح بشكل مختصر سبب سقوط غرناطة، والذي يرجع حسب ليون للتناوش بين آخر ملوك الأندلس: أبو عبد الله وأمه من جهة، وأبوه وزوجته ثريا من جهة ثانية.. صراع عائلي انتهى بمأساة طالت أمة بكاملها. في هذا الكتاب، لا نجد شخصية ليون حاضرة بقوة لصغر سنه، لهذا اعتمد على ما حدثه به أبوه وخاله، فجاء الكتاب فقيراً من ناحية وجهة النظر الشخصية لليون، ينتهي الكتاب بالنزوح القسري للعائلات المسلمة واليهودية إلى المغرب هرباً من محاكم التفتيش، وإن كان الوزان نزح لسبب آخر وهو الهروب بزوجته الثانية الرومية وردة، فتبدأ الفترة المؤسسة لشخصية ليون في مدينة فاس.

كتاب فاس 1494-1513

تسع عشرة سنة قضاها في فاس، يروي حال المنفيين الغرناطيين في هذه المدينة، نجد في هذا الكتاب حضوراً لشخصية ليون، وبداية تكوينه الاجتماعي والثقافي والديني، فيصور ليون صراعه النفسي مع أبيه بعد رؤيته في حانة، وبعد قبوله تزويج أخته مريم لشخص سيئ. في هذا الكتاب تتطور علاقته بأمه وزوجة والده وبأخته مريم، كما يُنشئ صداقات سترتبط بكل حياته، في هذا الكتاب يقوم ليون بأولى رحلاته وأولى سفاراته، وسيتولى خاله تعليمه المبادئ الأولى للسفارة فيزور تمبوكتو، وفي الرحلة نتعرف على شعوب يتميز بعضها بالغنى الفاحش، والبعض الآخر يقاوم رعب الصحراء والفقر، حياة ليون في فاس تسطّر آخر العهد الوطاسي وبداية صعود السعديين بالمغرب الذي سيؤسسه فعلياً أحد أصدقاء طفولته، تتوالى الأحداث في هذا الكتاب دافعة ليون للمنفى الإجباري من جديد فيرحل باحثاً عن مغامرات جديدة.

كتاب القاهرة 1513-1519

يدخل الحسن الوزان، أو ليون، القاهرة وهي متشحة بثوب الطاعون الذي حصد الآلاف، وتمنحه الصدفة فرصة الحصول على ملك يلجأ إليه، فيبدأ رحلته الكبرى الثالثة في القاهرة، ويصدم لأول مرة بعشق يهز كيانه وأحلامه حين يلتقي بالجركسية نور وأم لابن باحث عن الخلافة قد تهز خلافة العثمانيين التي يعتبرها الوزان أملاً في عودته إلى غرناطة، لكنه يؤجل حلمه ويختار حماية بايزيد وأمه، حماية دفعته إلى الرحيل مجدداً بعد سقوط القاهرة بأيدي سليم الأول، فيعود إلى فاس ليجد والده قد توفي، مع أخبار مثيرة عن هارون صديقه ومريم فيتتبع أثره إلى الجزائر.

كتاب روما 1519-1527

يُساق الحسن إلى الأسر بعد اختطافه كقربان توبة من قبل قراصنة يشتغلون لحساب البابا ليون العاشر، هذا الأخير الذي تبنى ليون وعمده باسم يوحنا- ليون دومديتشي، ولتمييزه عن أفراد هذه العائلة العريقة أضيف وصف الأفريقي لاسمه، تكفل البابا بتعليمه- الجبري- على يد عدة معلمين، فعُلّم اللاتينية والتعليم المسيحي والإنجيل واللغة العبرية والتركية، وعليه بدوره أن يعلّم سبعة طلاب اللغة العربية.

كانت روما تمر في هذه الآونة بمرحلة الصراعات البابوية واللوثرية والاضطرابات التي تبعتها، فترة محاربة الهراطقة وبيع صكوك الغفران، مرحلة ستقع روما فيها بين قوتين هائلتين هما القشتاليون في اسبانيا واللوثريون، وعن محاولة كسب العثمانيين كحلفاء لهم، عن يوحنا العصابات السوداء وحربه دفاعاً عن روما، عن اللحظات الأخيرة لهروب الحسن وزوجته اليهودية مادالينا وابنه منها يوسف حتى اعتلوا ظهر السفينة التي يكتب على متنها هذه الكتب الأربعة.

أبدع معلوف في صياغة روايته إبداعاً لا تفوقه إلا روعة ترجمة عفيف دمشقية، بين ثنايا الرواية تجد العديد من العبارات والرؤى البليغة والفلسفية الحكيمة، رحلة عظيمة وتجارب رهيبة أكسبت الشاب حكمة مبكرة، وطوّرت من شخصيته وفهمه للحياة والانتماءات حتى خطّ في آخر صفحة من الكتاب نصيحة لا تقدر بثمن لابنه: “حاذر أن ترضخ لوطأة الجمهور، فمسلماً كنت أو يهودياً أو نصرانياً عليهم أن يرتضوك كما أنت، أو يفقدوك، وعندما يلوح لك ضيق عقول الناس فقل لنفسك أرض الله واسعة”.

عُلا أحمد