ثقافةصحيفة البعث

عبد السلام العجيلي.. أيقونة الرقة

كنت قد تلقيت دعوة لحضور فعاليات مهرجان المعتمد بن عبّاد في مراكش، فجهزت نفسي لحضوره، وختمت الجواز من السفارة المغربية بدمشق، وذهبت إلى المطار، وتفاجأت بالدكتور عبد السلام العجيلي جالساً وكأنه ينتظرني في الصالة، فهش لي، وأنا ارتحت كثيراً لأنه مدعو إلى هذا المهرجان، وسوف يلقي كلمة بهذه المناسبة. انطلقنا إلى القاهرة، ونزلنا في فندق “شيبرد” الذي يذكره نجيب محفوظ في معظم رواياته، وأخذني الدكتور إلى مقهى “ريش” حيث يجلس نجيب محفوظ وصحبه، وجلسنا وشربنا الشاي، ثم تجولنا في الأسواق، وعدنا في الليل، كانت القاهرة مليئة بالبشر الذين لا ينامون، أما أنا فقد ودعت الدكتور عبد السلام، ودخلت غرفتي ونمت نوماً مريحاً.

في الصباح، رن جرس الهاتف، فأسرعت إليه، كان المتكلم الدكتور عبد السلام، فقال: “ماذا تفعل عندك”، قلت: لا شيء، قال: “تعال نشرب القهوة على شط النيل، لبست ثيابي، واتجهت إلى غرفته، فكانت القهوة جاهزة على الشرفة، وجلست أستمتع بالنيل الخالد، شعرت بنسائمه تتغلغل في جسدي، فانتعشت وامتلأت روحي بمياهه العذبة، كان الدكتور يحكي بأنه زار مصر كثيراً من المرات، وأنه يعرف القاهرة والاسكندرية، ويعرف المناطق الأثرية منذ زمن قديم، أما أنا فقد كانت هذه الزيارة هي الأولى بالنسبة لي.

الساعة الخامسة انطلقنا إلى مراكش، كنا لفيفاً من الأدباء والكتّاب، والممثلين والممثلات، أذكر منهم: سليمان العيسى، يوسف القعيد، عزت القمحاوي، أحمد الشهاوي، والممثلة سهير المرشدي، ونضال الأشقر، أمم كثيرة لكنني لا أتذكر أسماءهم الآن، من كل مكان في الوطن العربي.

وصلنا إلى مراكش، ونزلنا في فندق النخيل، وفي اليوم التالي ذهبنا أنا والدكتور وأحد الأصدقاء إلى ساحة الفنا، ورأينا الحواة والسحرة والسياح الأجانب، والباعة الذين يبيعون كل شيء، والناس الذين يتفرجون، القاعد منهم والماشي، بشر من كل الأصناف والأشكال، ونحن تفرجنا وعدنا إلى الفندق.

جرت فعاليات المهرجان، وجلسنا مع الأدباء، وتصوّرنا مع الممثلات والممثلين، وألقى الدكتور عبد السلام كلمته التي كانت حول تهدئة الحال بين المفكرين الأمازيغ الذين يرون أن الحق مع يوسف بن تاشفين حين دعاه المعتمد بن عبّاد مستنجداً ليحافظ على ما تبقى من دولة الأندلس، وبين المستنصرين للمعتمد بن عبّاد الذين يرون أن على يوسف بن تاشفين أن يرحل عن أرض الأندلس.

زرنا في جنوب مراكش قرية “أغمات”، ورأينا قبر المعتمد بن عبّاد، وقبر الرميكية، وبجانبها قبر لطفل صغير، وفي اليوم الخامس عدنا إلى القاهرة، ثم دمشق، وودعنا بعضنا، وهو ذهب إلى بيته فيها، وأنا اتجهت إلى حلب.

هذه الصداقة بيننا امتدت لأكثر من خمس وعشرين سنة، نجلس في المقاهي، حين كان يزور الدكتور عبد السلام حلب، ونلتقي في المعارض والندوات والأمسيات… إلخ.

د. العجيلي أديب وطبيب مواليد الرقة عام 1918، توفي فيها في الخامس من نيسان عام 2006، والرقة تقع على نهر الفرات، من عشيرة البوبدران، انصرف منذ صغره إلى القراءة والاطلاع على ما وقع بين يديه من كتب، والده ويس العجيلي، والدته مزنة العجيلي، وقد أقعده المرض أربع سنوات قضاها في القراءة، نظم أول قصيدة له وهو في الرابعة عشرة من عمره، وأول ما نشره قصة بعنوان “نومان” في مجلة الرسالة المصرية عام 1936، ووقعها بـ ع. ع، كما نشر في مجلة “المكشوف” اللبنانية بأسماء مستعارة قصصاً وقصائد، وفي سواها من المجلات الدمشقية، وفي عام 1943 فازت قصته “حفنة من الدماء” بجائزة مسابقة القصة.

تعلّم في الرقة، ودرس في ثانوية المأمون في حلب، وأتمّ تعليمه في جامعة دمشق، كلية الطب، وتخرج فيها طبيباً، وعاد إلى الرقة، وفتح عيادة يخدم فيها الناس، ويتابع رسالته في الإنسانية، وانتخب عن مدينة الرقة نائباً في البرلمان عام 1947، وانخرط في صفوف جيش الإنقاذ عام 1948، تولّى عدداً من المناصب الوزارية: (الثقافة، الخارجية، الإعلام).

يعتبر أهم علم في القصة والرواية في سورية والوطن العربي، ألّف مع مجموعة من الأدباء “عصبة الساخرين”، وأنجز مجموعته “بنت الساحرة” عام 1948، ظل يكتب ويؤلف حتى عام 2005، وأصدر نحو 44 كتاباً في مجالات متنوعة، وترجمت أعماله إلى كثير من اللغات، سُمّي حي باسمه، وافتتحت قاعة باسمه في المركز الثقافي في الرقة، ضمت معظم أعماله وأثاره وصوره.

عام 1951 ألّف مجموعة شعرية باسم “ليال ونجوم”، ومجموعة قصصية باسم “ساعة الملازم”، وفي ذلك العام سافر إلى فرنسا وأقام فيها لستة أشهر، وعاد منها إلى عيادته في الرقة، كما زار معظم دول أوروبا الغربية والأمريكيتين، حيث كتب في تنقلاته هذه القصص الرائعة، وألّف حكاية “من أدب الرحلات”، وكتب “المقامات” عام 1962، وتتناول مجموعة من النصوص والمقامات الساخرة لأدباء كان يعايشهم، وكتب “أحاديث العشيات” الذي يندرج ضمن أدب المقالة، وفيه أشياء شخصية ضمت أحد عشر حواراً، منها: “مذهبي في كتابة القصة”، و”أزمة المثقفين العرب”، وألّف ما بين 1954- 1958 روايات: “باسمة بين الدموع”، و”قناديل اشبيلية”، و”رصيف العذراء السوداء”، ومجموعة “الخائن”.

عام 1971- 1975 كتب: “فارس مدينة القنيطرة”، و”حكاية مجانين”، و”قلعة على الأسلاك”، و”السيف والتابوت”، وتشارك مع الكاتب أنور قصيباتي في: “ألوان الحب الثلاثة”، وفي عام 1977 كتب: “أزاهير تشرين المدماة”.

تزوج في عام 1958 بفتاة دمشقية، وأنجب منها أربعة أولاد، لقد خدم الناس والأدب لسنين طويلة، وقد زرنا قبره أيام مهرجان العجيلي الذي أقامته وزارة الثقافة.

فيصل خرتش