دراساتصحيفة البعث

القتل طبيعي في مجتمع غير طبيعي !

ترجمة وإعداد: علاء العطار

لا حاجة للتساؤل عن سبب مقتل جورج فلويد في وضح النهار في مينابوليس، مينيسوتا، في 25 أيار 2020، فقد كُتب سيناريو موته عميقاً في دراما تاريخ الولايات المتحدة الدميمة.

لا أستطيع التنفس” 2020:

جثم الشرطي ديريك تشوفين بركبته على عنق جورج فلويد لثماني دقائق وستة وأربعين ثانية، ففارق جورج فلويد الحياة إثر ذلك. ومنذ أن أرخى تشوفين بثقل جسده على عنق رجل أعزل، قال فلويد “لا أستطيع التنفس” إحدى عشرة مرة، في مشهد يدمى له القلب.

يقول العلماء المختصون بدراسة عملية التنفس عند الإنسان إن بإمكان الشخص غير المُدرب أن يحبس نفسه من ثلاثين ثانية إلى دقيقتين، وإن تجاوز هذه المدة سيودي به ذلك إلى الموت في النهاية.

لا أستطيع التنفس” 2014:

دفع الشرطي دانيال بانتاليو المواطن إريك غارنر فأسقطه على رصيفٍ في مدينة نيويورك، وجرى الأمر بعد دقائق معدودة من مساعدة غارنر في حل شجار في الشارع. وضغط بانتاليو وجه غارنر على الرصيف، وقال غارنر في مشهد يندى له الجبين “لا أستطيع التنفس” إحدى عشرة مرة.

فقد غارنر وعيه، ولم يتلق الرعاية الطبية اللازمة في سيارة الإسعاف، وأعلن عن وفاته بعد وصوله إلى المستشفى، فمات عملياً كميتة المشنوق.

أمر تقشعر له الأبدان:

كان فلويد وغارنر أمريكيين من أصل إفريقي، كافح كلاهما لكسب لقمة العيش في بيئة اقتصادية قاسية. كتبت ميشيل باشليت، المفوضة السامية لحقوق الإنسان بياناً شديد اللهجة رداً على مقتل جورج فلويد، قالت فيه: “هذا أحدث حدث في سلسلة طويلة من عمليات قتل الأمريكيين الأفارقة العزل على أيدي ضباط الشرطة الأمريكية وأفراد من الجمهور. أشعر بالفزع لأنني اضطررت إلى إضافة اسم جورج فلويد إلى أسماء بريونا تايلور وإريك غارنر ومايكل براون والعديد من الأمريكيين الأفارقة العزّل الذين ماتوا على أيدي الشرطة، على مر السنين إلى جانب أشخاص مثل أحمد آربري وتريفون مارتن اللذين قتلا على أيدي أفراد مسلحين من الجمهور”.

تقتل شرطة الولايات المتحدة في كل عام أكثر من ألف شخص، واحتمالية أن يُقتل مواطن من أصل إفريقي على أيدي الشرطة تزيد ثلاثة أضعاف عن قتل مواطن من العرق الأبيض، وكان معظم الأمريكيين الأفارقة الذين هتكت أرواحهم الشرطة غير مسلحين، ليس كحال البيض. لا ترتبط معظم حوادث القتل هذه بجرائم خطيرة. ويدهشنا معرفة أن 99 % من الشرطة الذين قتلوا مدنياً لم يُدانوا بأية جريمة.

يأس دائم:

قال الشاعر لانغستون هيوز في قصيدة “اليأس” واصفاً ثلاثينيات القرن الماضي: “فتح (اليأس) عيون الجميع فأراهم أحجامهم الحقيقية بعد أن خسروا شيئاً أو اثنين”، ويعني أنه أذاقهم مرارة الذل والهوان. لكن الأمر لا ينطبق على الأمريكيين الأفارقة لأنهم لا “يملكوا في الأصل شيئاً”، وحياتهم عبارة عن كفاح دائم.

اتهم غارنر ببيع السجائر غير الخاضعة للضريبة في الشارع، فانتهك بذلك قوانين ضريبة الإنتاج ليجني بضعة دولارات؛ واتهم فلويد باستخدام عملة ورقية مزورة من فئة العشرين دولاراً. حتى لو كان ثبتت عليهما هاتين التهمتين، لم تكن أي منهما جريمة فظيعة، ولو تسنى لهما الذهاب إلى المحكمة، لما حُكم على هذين الرجلين بالإعدام، لكنهما قُتلا بعد أن اتهما بمخالفتين طفيفتين.

عندما سطر هيوز تلك الكلمات، قبض على لينو ريفيرا، وهو صبي إفريقي بورتوريكي يبلغ من العمر 16 عاماً، قبض عليه لسرقة مِطواة ثمنها عشرة سنتات. تجمع حول الشرطة التي أتت لاعتقاله حشد من الناس، وانتشرت شائعة بأنه قٌتل، وانتفض الشارع غضباً في حيّ هارلم. وأظهر تقرير حكومي لاحقاً أن الاحتجاجات كانت “عفوية” وأن أسباب الاضطراب كان “مظالم التمييز في التوظيف وعدوانية الشرطة والفصل العنصري”. بإمكان الحكومة أن تكتب التقرير نفسه لوصف الاحتجاجات الحالية. وهذا يوحي بأن الكساد دائم.

لا يمكن إصلاح النظام:

يقول التاريخ إن عدوانية الشرطة الأمريكية تسبق أي اضطراب. ففي عام 1967، دفعت الاضطرابات في ديترويت الحكومة الأمريكية إلى دراسة أسبابها افترض مسؤولوها أن المحرضين الشيوعيين والصحافة التحريضية وراء الأمر. وقالت اللجنة الوطنية الاستشارية للاضطرابات المدنية: إن أعمال الشغب “لم تكن ناجمة عن أي مكيدة أو مؤامرة منظمة”، بل إن السبب هو العنصرية البنيوية، وأشار التقرير إلى أن “ما لم يفهمه الأمريكيون البيض هو أن مجتمع العرق الأبيض متورط جداً في أحياء الأقليات. وعنصرية البيض هي التي خلقته، وهي التي تحافظ عليه، ويتغاضى عنه مجتمع البيض”. ويعني كاتبو التقرير بأحياء الأقليات التفاوتات الطبقية الشنيعة في الولايات المتحدة بحسب العرْق، وهذا يرجع إلى تاريخ حافل بالاستعباد.

وبدل معالجة مسألة التفاوت الطبقي في المجتمع، حين اختارت الحكومة الأمريكية تسليح الشرطة بشتى أنواع الأسلحة وإرسالهم لتأديب السكان الذين ألمت بهم الضائقة بأسلحتهم الخطيرة. واقترحت اللجنة “سياسة تجمع بين إثراء أحياء الأقليات ببرامج مصممة لتشجيع الاندماج.. في المجتمع خارج تلك الأحياء”.

لم يأت هذا التقرير بأي نتائج، وهذا هو الحال منذ 150 سنة. وبدل الاستثمار الحقيقي برفاه الشعب، خفّضت الحكومة الأمريكية – سواء ترأسها الديمقراطيون أم الجمهوريون – من برامج الخدمة الاجتماعية وقلصت إنفاقها على الرفاه، بل إنها أجازت للشركات الرأسمالية إنقاص الأجور وخفض ظروف العمل المؤاتية، والنتيجة أن ما كان فظيعاً في عام 1968 في نظر الأمريكيين الأفارقة من الطبقة العاملة أمسى أفظع اليوم.

ونهبت الأزمة المالية في عام 2008 من مدخرات الأقليات الكثير، مدخرات قضوا أجيالاً في جمعها بالعمل الجاد وعرق الجبين. وبحلول عام 2013، وجدت مؤسسة “بيو” للأبحاث أن القيمة الصافية لأُسر البيض كانت أكبر بثلاث عشرة مرة من أسر الأمريكيين الأفارقة؛ وهذا أكبر فجوة منذ عام 1989، وهي فجوة آخذة بالاتساع. واليوم، مع تفشي الجائحة التي ضربت الولايات المتحدة ضربة موجعة، تبين المعطيات أن الوباء أصاب الأمريكيين الأفارقة وغيرهم من الأعراق الملونة أكثر من الآخرين. يعود سبب ذلك إلى أن تلك الفئات يعملون في الخطوط الأمامية التي تعد أخطر الوظائف في هذا الظرف المرير.

وإن جنى إريك غارنر وجورج فلويد أجراً لا يقل عن 25 دولاراً لقاء عملٍ لائق، فهل سيضعان نفسيهما في وضع يخول شرطياً مولعاً بالقتل أن يتهمهما ببيع سجائر غير خاضعة للضريبة أو الشراء بورقة مالية مزورة؟ طبعاً إن ثبُتت عليهما هاتان التهمتان.

هذه أمور طبيعية:

هشّمت المجتمع الأمريكي آلياتُ رفع معدلات التفاوت الاقتصادي، ورفع معدلات الفقر، واستحالة الدخول إلى منظومات تعليمية قوية، والظروف الاستثنائية الشبيهة بظروف الحرب التي فُرضت لتولي أمر السكان الذين يُنظر إليهم كمجرمين وليس كمواطنين.

إن أسماء مايكل براون وساندرا بلاند وإريك غارنر وتامير رايس.. إلخ والآن جورج فلويد ما هي إلا أسماء عرفناها حتى اللحظة، أسماءٌ مكتوبة بالحبر على لافتات كرتونية في احتجاجات كثيرة عمّت جميع أنحاء الولايات المتحدة ولا تزال آخذة بالازدياد. إن طعم اليأس المرّ لا يزال على ألسنة المحتجين، ويزداد ضغط غضبهم على النظام دون أن يجد له منفذاً.

وعنصرية دونالد ترامب وصلت لدرجة لم يشهد لها تاريخ الرؤساء في أمريكا، بل إن شناعتها وصلت لأقصى حد. ولطالما كانت سياساته تعتمد على العنف الغبي. لكن هل سيدوم هذا الحال؟ لا شك أن رغبة الشعوب في تحقيق العدالة تفوق بطش أي طاغية، لكن إن لم تثر ثائرة غالبية الشعب الأمريكي، لن تتوقف عجلة القتل في الولايات المتحدة، وسيشهد الغد قتل فقير آخر، وبعده آخر، وستتوالى الجرائم التي يعدها النظام الأمريكي أمراً طبيعياً.