الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

نوافذ 60

 

عبد الكريم الناعم

وقف يتأمّل البحر، واستيقظت في ذاكرته تلك الأحلام بسفر بعيد فيه، وأن يكون كلّ عدّة أيام في ميناء، ويظلّ يطوف، ولا تنتهي الموانئ.. النهايات غالباً موت.. غير بعيد منه حطّ طائر نورس، وأصدر أصواتاً. خُيِّل له أنّه يعرف شيئاً ممّا يقوله ذلك الطائر، كان يغنّي قصيدة بدايتها تقول: “يتشكّل جسم الغيمة من تفكير البحر بأجنحة زرقاء”، وظلّ يردّدها ويُعيد حتى ظنّ أن للموانئ نهايات لا يعرفها.

****

أيّام كان يسهر حتى انبلاج الفجر، ليقوم بعد ساعتين للذهاب إلى وظيفته التي كانت تُطعمه خبزاً هو وأطفاله، أيّام كان يرى في الزمن فسحة للمغامرة في المسافرات بأنواعها.. (مسافرة) المسافات، و(مسافرة) كشف ما خلف الإيماءات في تلك النصوص العالية الجوّانيّة التي يضنّ بها أصحابها على غير أهلها. في ذلك الزمن تعرّف على أحد السّاهرين المسامرين، وكان يُدهشه أنّه ما أن يشرب بضعة أقداح حتى يغلب عليه البكاء، فبكاؤه بكاء، وفرحه بكاء، وصمته بكاء، وفي غنائه ذي الصوت المشروخ الحزين كميّة تجرح القلب من البكاء.. وكان هذا دأبه، فتساءل في سرّه: “أتُراه يشرب كي يبكي، أم يبكي كي يشرب؟”.. وما زال هذا السؤال يؤرّقه بين حين وآخر.

****

التقى به بعد أن انتشر الشيب، ودبّ الوهن في الأعضاء، فبادره الآخر بدهشة وصاح: “ياإلهي!! كم تغيّرت ملامحك عمّا كنتَ فيه أيّام الصهيل!”. نظر إليه نظرة عميقة التعبير، وابتسم كطفل وهو يتوكّأ على عكّازه، وقال له: “أنا مرآتك، ولكنْ يبدو أنّ قصر النّظر لم يفارقك”.. ضحك الاثنان. قال له: “هَل تذكر ذلك العشق الذي أرّقك، وجعلك طيراً يُغرّد في ليالي الصبا؟! هل تذكر كم أخذتْك الخطوات قبل الهزيع الأخير من الليل إلى ذلك الحيّ الذي أحببتَه كثيرا ذات يوم؟! قل لي بالله عليك: بعد كلّ هذه الأزمنة التي انقضتْ ما الذي جعلها تُعرض، على ما كان بها من  شغف؟!”. قال له: “اسمع يا صاحبي، لقد كان كلّ ذنبي أنّها وجدتْني أغفو على عتبات بابها ذات فجر”. قال مستغرباً: “أوَ بعد كلّ ما غنّيتَ لها من قصائد، وعُرفتَ بها، وعُرِفتْ بك، تعتب؟”. أومأتُ بحاجبيّ أنْ لا، وقلت: “كان ذنبي أنّها وجدتْني أغطّ في نوم عميق، والعشّاق في نظرها لا ينامون، وإن ناموا قليلا فلا تنام قلوبهم، فأعرضتْ إعراض العاتب لا إعراض القالي.

****

دعاني أحد أبناء صديق معتّق لزيارته في ذلك “الجِرْد”، وأنا أتهيّب الذهاب إلى ذلك المكان منذ ارتحال والده، فقد كان بيننا ما بين الأصدقاء الذين لا غرض لهم إلاّ جلاء المرايا؛ والأمكنة حين يُغادرها مَن نحبّه تفقد الكثير من ألَقها، حتى لكأنّ بعض الألَق الجميل يصدر عن الإنسان لاعنها.

أذكر ذات سفرة قديمة، لوحتُها الآن فقدتْ شيئا من بريقها.. في تلك السَّفرة استيقظت، كعادتي، قبل الفجر.. الصباحات هنا لا يقتصر بهاؤها على العين وحدها، بل ثمّة للصباح رائحة مندّاة بعطر البداءات الأولى، ذلك الضباب الشفيف الذي يصعد من قاع الوادي تكاد تُمسك بيدك الذرّات التي يتكوّن منها، اغتسال الخُضرة وهي تسبّح خالقها يستدعي جنّة أبينا آدم الأولى، كلّ ما حولك فيه إشعاع لاتراه إلاّ عين البصيرة، زقزقات الطيور البريّة هي دعوة للقافلة الأبديّة للجدّ في التهيّؤ لبكور هو جديد في كلّ يوم، الحسيّات تكاد تغيب فما يبقى سوى ذلك الألَق الجوّانيّ المأخوذ بنشوة لا توصلك إليها عشرات كؤوس الرّاح، على بُعد أفق من اغتسال الياسمين بندى غبطته خطوْتُ باتّجاه الضباب، لِأُرجعَ شيئا ضائعاً منّي لا أعرفه، ولكننّي أعرف جيّدا أنّني أضعته، في سيمفونية الضباب تسمع ما تقوله الحجارة المتجاورة لبعضها، تنظر إلى الشيء فترى أعماقه النّورانيّة مفرودة وكأنّك تنظر إلى شيء عبر مرئيّ. أصابني شيء من الخشوع، فخرجتُ خائفا أتوجّس.. وما زلت أخشى العودة.

aaalnaem@gmail.com