“الجوارح” يفوز بقلب الجمهور مرة أخرى
تتابع الأسرة السورية سواء تلك التي في الداخل، أو التي حطّ بها الرحال في بقاع مختلفة من الأرض، المسلسل السوري “الجوارح”، وهو من تأليف الكاتب الفلسطيني هاني السعدي وإخراج نجدة إسماعيل أنزور، أُنتج عام 1995، وهو من أول أعمال أنزور التي أخذت طابعاً أو نوعاً سمي بالفانتازيا التاريخية، وهو حقيقة لا يمت للفانتازيا بصلة، فالشكل الخارج عن المألوف الذي قدمه المخرج في رؤيته الإخراجية للعمل، وتلاه بعدة أعمال أخرى تأخذ الشكل ذاته أو التسمية غير الصحيحة، كان يمكن لها أن تكون نوعاً قائماً بحد ذاته، في حال تم تحديد السمات العامة له، لكن هذه الرؤية الإخراجية الغرائبية، لم تمنع جذب العمل الذي يُعرض اليوم على واحدة من قنواتنا المحلية الجمهور وبمختلف شرائحه العمرية، ففي غرفة واحدة هناك أكثر من 15 شخصاً من أعمار مختلفة، 60، 40، 30، 18، 14، 8، 4، سنوات، والجميع يتابع باهتمام التفاصيل والأحداث، مشدوداً بصرياً وذهنياً أيضاً للأحداث المتتالية التي تخطف الأنفاس، منتظراً الحلقة التي سوف تُعرض في سهرة الغد، وذلك بسبب جودة القصة وجودة ترجمتها بصرياً وبمختلف التفاصيل –الإضاءة، الموسيقا، السينوغرافيا العامة للعمل، المزاج الغرائبي للشكل أو النوع، فالقصة تُعتبر في إطارها العام من قصص التراث الشعبي، جالت على مسامع العديد من الأجيال، خصوصاً عندما كانت الجدات هن سيدات من يحكي حكاية، سيد قبيلة قوية لها سطوتها، يرسل أولاده الثلاثة –قوته، عزوته، سيوف عرشه الحامية- في رحلة طويلة ليثبتوا أنفسهم في الحياة، بعد أن قام أحد الخبثاء الطامحين للحكم بتحدي سيد القبيلة بأنه دون أولاده وقوتهم لن يصمد ولن يبقى قوياً، والتحدي الذي رفضه الجميع، وافق عليه الملك، معتبراً أن الامتحان ليس للأبناء فقط، بل له أيضاً واختباراً ضرورياً لقوته وقدرته على إدارة شؤون القبيلة والمحافظة على قوتها ومنعتها، وهكذا يغادر الأبناء الثلاثة القبيلة كل في طريق، وتبدأ الحكاية تأخذ أبعادها الدرامية المشغولة بعناية ودقة، إن كان في الحوار المتماسك، أو في الأداء المنضبط بالورق، الحبكة العامة التي تشد الانتباه، والحبكات المرافقة تلك التي تعزز السياق العام للعمل دون أن تطغى عليه، أيضاً الألوان والطبيعة الجغرافية الغنّاء والتي كان “أنزور” من أوائل المخرجين السوريين الذين قاموا بتوظيفها في الدراما التلفزيونية بعد أن بقيت لزمن محكومة بجدران الأستوديو ومزاج مصمم الديكور، هذا وغيره من الأسباب جعل المشاهدين السوريين بشكل خاص يقبلون وبشغف على متابعة “الجوارح” حتى بالنسبة لمن سبق وشاهده، خصوصاً أن عرضه جاء بعد نهاية ما وصف بـ “أسوأ” موسم درامي سوري جاء في تاريخ الدراما المحلية، وهذا باتفاق شعبي ونقدي، ما يؤكد مرة أخرى أن مقولة “هذا ما يريده الجمهور” لتبرير تقديم الأعمال الهابطة في سويتها الفنية ورداءة مضمونها، هي من الأكاذيب التي تم الترويج لها وبشدة على أنها سبب انتكاسة واقع الدراما المحلية وبمختلف أنواعها – مسرحية، سينمائية، تلفزيونية – كما أنه ينسف أيضاً الفكرة التي راحت تروج لموت “التلفزيون” – جهاز العائلة – أيضاً سيقت هذه الحجة السمجة على أنها من أسباب التراجع المريع للدراما المحلية، فأفراد العائلة كل مشغول بمفرده بما يتابعه على جواله من أعمال مختلفة وكثيرة، يتم عرضها على منصات الشبكة العنكبوتية، وهذا يعني أن سطوة التلفزيون لم تزل قائمة بل وقوية ولكن فقط عندما تتوفر المادة الجيدة للمشاهد.
أما السبب الرئيسي لهذه المتابعة الواسعة والمتنوعة لمسلسل تم عرضه كمسلسل السهرة على الشاشة الرسمية المحلية، قبل ربع قرن، فهو بالتأكيد القصة الجيدة، تلك التي جاء فيها “السعدي” من الذاكرة الشعبية، إذ جلب عناصر ومهارات الحكاية الشعبية من مجتمعه الفلسطيني، صحيح أنه كان صغيراً في العمر عندما جاء إلى دمشق، وذلك بسبب النكبة، غير أن الأعمام والأخوال والأهل، ينقلون معهم كامل ثقافتهم، ومنها جلسات القص الشهيرة، المعروفة عن الأشقاء الفلسطينيين في ليالي الشتاء، فالحكاية شقيقة ذلك الشعب، يكفي أن نعلم أن روائياً بمستوى غسان كنفاني حقق كل ذلك الإبداع، مع أنه اغتيل في السادسة والثلاثين من عمره، أو أن نتذكر وائل زعيتر الذي عندما اغتيل في روما، كان يعمل على ترجمة “ألف ليلة وليلة” إلى الإيطالية، إن القصة شقيقة توءم للشعب الفلسطيني، بل إن تاريخهم الحديث بحد ذاته قصة، وهكذا استطاع “السعدي” أن يقوم بصياغة “درامتورجية” مناسبة للقصة، لتأتي الشخصيات قوية ومتماسكة في بنائها الدرامي، خصوصاً أن الحبكات والذرى الدرامية إضافة إلى الحوار ساهمت بفاعلية في رفع سوية الأداء عند الممثلين، الذين قدم بعضهم في العمل المذكور أهم أداء قدموه في تاريخهم الفني، وهكذا استطاع “الجوارح” الفوز بقلوب الجمهور المحلي مرة أخرى، الجمهور الذي أرهقته دراما البيئة المتهالكة والتي أصبحت عبارة عن “كليشيه” فيما تطرح وتقدم، لكنها لم تزل “بياعة” عند بعض شركات الإنتاج، لذا وفي كل موسم درامي محلي، يتم الاستنساخ الممجوج لقصص مفككة بلا سياق درامي جاذب، مع أداء متشابه ورخو لشخصيات متشابهة ورخوة، دعونا لا ننسى أيضاً تلك الأعمال “المخجلة” بما قدمته من محتوى غرائزي بهيمي بحت والتي تصدرت لفترة من الزمن واجهة الدراما المحلية، وكانت من أسباب تفكك الفرجة العائلية للدراما التلفزيونية التي تجمع عادة، هذا عدا عن الغياب التام للأعمال الكوميدية والتي أيضاً صارت نسخاً متشابهة عن نماذج حققت نجاحاً ما بداية ظهورها، لكنها ومع التكرار وإعادة التدوير التي جرت عليها، صارت تبعث على السأم والملل، الأفكار نفسها، الأسلوب نفسه، حتى ما يٌعتبر كوميدياً فيها، لا يوجد فيه من الكوميديا حتى تلك التي تسمى بـ: “الكوميديا السوداء” إلا اسمها، لذا ليس من المستغرب إقبال الجمهور على مشاهدة عمل يعود للقرن الماضي بالشغف ذاته، ويبدو أن محطاتنا تدرك هذا الأمر جيداً، لذا تقوم بإعادة بث الأعمال الدرامية المحلية التي حققت السمعة الطيبة، تلك التي وسمت وتباهت بها درامانا المحلية يوماً.
تمّام علي بركات