ما بين القيادة السياسية.. والنظام السياسي
د. عبد اللطيف عمران
من الطبيعيّ أن تملأ سورية الدنيا، وتشغل الناس، اليوم، قيادة ونظاماً سياسياً، دولة وشعباً. السياسيون في العالم يعرفون ذلك، ولا يجهلون أسبابه ولا ينكرونها، وكذلك المؤرّخون والآثاريون والاقتصاديون، فهي كانت، وستبقى، كما قال عالم الآثار الفرنسي أندريه بارو: “لكل إنسان متحضر في هذا العالم وطنان: وطنه الأم، وسورية”؛ ولعل هذا من بعض ما دفع، عام 1964، الكاتب والصحفي البريطاني باتريك سيل، لتأليف كتابه (الصراع على سورية). وعبر التاريخ، كان الباحثون يلحظون وقائع هذا الصراع من خلال لعبة المبادلة بين حرفي الجر (على) و(في)، وها هي أجيال اليوم تتابع السردية ذاتها بأبعادها الوثائقية والدرامية والأدبية والتاريخية للصراع.
لاقى كتاب باتريك سيل رواجاً عالمياً في الستينيات وبعدها، ما دفعه لإصدار سلسلة في هذا السياق – منها كتابه: (بندقية للإيجار) – وكان (الأسد: الصراع على الشرق الأوسط) الكتاب الخامس له، صدر عام 1988، وهو كتاب ضخم حجماً ومضموناً، وقد ساعد على إنجازه ما حظي به المؤلف من مقابلات شخصية مع القائد الخالد حافظ الأسد الذي يحتفي الوطنيون والعروبيون وأحرار العالم وشرفاؤه، اليوم، إجلالاً ومهابةً وكرامةً، بالذكرى العشرين لغيابه جسداً، وحضوره مُثُلاً وقيماً ومبادئ.
حين أوشك سيل على وضع خاتمة كتابه، سأل القائد الخالد: كيف سأختم كتابي، سيادة الرئيس؟ فأجابه شارحاً: (الصراع مازال مستمراً)، فكانت هذه العبارة خاتمة الكتاب.
وها هي السنون تمضي، وكذلك العقود من الزمن، لنصل إلى أشكال متجددة من الصراع لم تكن تخطر في الحسبان، مع توحش كهذا ناجم عن تحالف أشكال من الاستعمار القديم والحديث وما بعد الحديث، مع الصهيونية والرجعيتين العربية والعثمانية، وتشكيلات من العمالة والخيانة والارتزاق تراهن وتستثمر في عصابات الإرهاب والتطرف والتكفير.. وفي أشكال الصراع هذه، استُخدمت أجيال الحروب جميعها، من الجيل الأول (قطع الرؤوس)، إلى الرابع والخامس.. حيث التضليل الإعلامي ووسائل التكنولوجيا الرقمية والتواصل الاجتماعي لتزييف الأصالة والمعاصرة.
ووصلت الحرب على سورية والعدوان على شعبها وقيمها ودورها التاريخي العروبي الأصيل إلى ما نحن فيه اليوم، بعد أن استتر العدوان والحرب بغلالة مزيفة من الخلاف مع القيادة السياسية، ثم مع النظام السياسي، لتتعرّى الوقائع، وتثبت أنه عدوان على الدولة، وصراع مع المجتمع ووحدته الوطنية، مع قضايا الوطن ومصالح الشعب والأمة، تحت غطاء كثيف من الفبركات وعمليات التزييف والتضليل أسهمت بها فضائيات ومثقفو التكنوقراط والبترودولار.
تمّ تغييب مفهومات كثيرة – وبالجملة – لإيهام البسطاء من أبناء شعبنا وأمتنا أن الصراع، للوهلة الأولى، هو مع القيادة السياسية، ليصبح مع النظام السياسي في فترة لاحقة، ولتتكشف الحقائق – في المحصلة – أنه مع الدولة والشعب، مع القيم والمبادئ والقضايا والعقائد، والمصالح المشروعة أيضاً.. وهو ما يتطلب توضيح هذين المفهومين:
1- القيادة السياسية: هي المؤسسة التي تعمل على تحقيق أهداف النظام السياسي بما يتفق مع مصالح الشعب، وطاقات الدولة، وقدرات المجتمع، فتتخذ القرارات اللازمة لمواجهة الأزمات والتحديات التي تعترض تحقيق أهداف النظام السياسي، وذلك في إطار تفاعلي مع مصالح الشعب، ووعي المجتمع والتزامه وانتمائه.
والقيادة السياسية ليست مسألة شخصية، ولا ظاهرة فردية.. إنها عملية تفاعلية بين المواقف والقيم والمصالح من جهة، وبين القائد والنظام والشعب من جهة ثانية.
وهنا يجب التذكير بأن الفرق بين القائد والرئيس، كالفرق بين السلطة المدنية والسلطة الجزائية، بين المسؤولية الجماهيرية والاجتماعية ، بين مسؤولية اتخاذ القرار وتنفيذه. فالقائد رمز لكرامة الشعب وآماله، يعزز الثقة والاطمئنان والطموح، ويبدد مشاعر الإحباط واليأس، والرئيس يحافظ على سير عمل الدولة ومؤسسات النظام السياسي. وللأسف، هناك رؤساء يصلون إلى السلطة، ويستحوذون على النظام السياسي بدعم أجنبي تتحطم معه خصائص القائد وهدف القيادة ودورها، وكذلك مصالح الشعب، وكرامة الوطن، وهيبة الدولة، وهو ما هدف إليه التحالف الصهيوأطلسي الرجعي العربي العثماني، من خلال ما يدعى بـ “الربيع العربي”، على أمل توظيف الحصاد المر لاتفاقيات السلام (الاستسلام) والتطبيع المذلّة، وضرب محور المقاومة والصمود المتمسك بالحقوق والواجبات، وبالقانون الدولي والشرعية الدولية.
هذا الكلام ليس حزبياً ولا أيديولوجياً، بل هو معرفي نجد مضمونه وصداه في الحاكم/ الفيلسوف عند أفلاطون، وفي الحاكم/ الأمير عند ميكافيلي، وفي القائد/ البطل السياسي عند هيغل، وفي السوبرمان عند نيتشه. ولكن لهذا الكلام إسقاطاته المعاصرة أيضاً، وهنا لابد من السؤال حول تصنيف السلوكية العدوانية والشريرة لـ “الرئيس” ترامب ونسقه وأزلامه في المنطقة والعالم!
تحذّر صحيفة واشنطن بوست من أن سياسة ترامب تهدّد بتدمير المجتمع الأمريكي، بينما يغرّد ترامب نفسه واصفاً وزير دفاعه السابق بـ (الكلب المجنون)، بعد شتائم ومهاترات بين الوزير ورئيسه، فأي رئيس، وأي قيادة سياسية، وأي نظام سياسي هذا؟! إنها قيم الرأسمالية والإمبريالية المتوحشة التي تنتج إدارة منحطّة من الطبيعي أن تقضّ مضاجعها قيم وتاريخ الشعب والدولة، والقيادة والنظام السياسي، في سورية.
2- النظام السياسي: هو المؤسسة التي تقوم بعملية اتخاذ القرار الرسمي وفق النظم القانونية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية من خلال إدارة موارد المجتمع والدولة لتحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح العامة، والحد من التناقضات الاجتماعية، وتحقيق الأمن الداخلي والخارجي، أي هو مجموعة المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية التي تتوزع بينها عملية صنع القرار.
إن تاريخ سورية الحديثة والمعاصرة عريق وطنياً وقومياً، من عز الدين القسّام إلى جول جمّال؛ ونظامها السياسي، منذ ثورة 8 آذار، إلى الحركة التصحيحية، حافل بالمآثر الوطنية والقومية، وها هو هذا النظام، وهذه القيادة، ومعهما المجتمع، يواجهون اليوم أصعب منعطف تاريخي في معترك مصيري، خلف القائد بشار الأسد ومعه، يُستهدف فيه الشعب السوري بكل قطاعاته ومكوناته وأصالته الوطنية والقومية والعروبية، بوحدته الوطنية وبمصالحه وتطلعاته، وكذلك الدولة بمؤسساتها الوطنية، وفي طليعتها الجيش العقائدي والأحزاب الوطنية والقومية والتقدمية، وحيث تُستهدف المحاصيل بالحرق والثروات بالنهب، والأرض بالاحتلال كوحدة وسيادة، كما تُستهدف الليرة السورية، ولقمة العيش، والاقتصاد والصناعة بالعقوبات والحصار، وبالشائعات والتلفيقات.
للحقيقة، وبعيداً عن التضليل وعن المضلَّلين، فإن السوريين في هذا المعترك يقفون موقفاً واحداً وسيبقون، شعباً ودولة ونظاماً سياسياً وقيادة، مخترقين الحدود المتداخلة بين التعريفات، لأنهم مستهدفون جميعاً معاً.
فلندافع معاً، بوعينا وانتمائنا وقوتنا وقيمنا، عن سورية شعباً ودولة وجيشاً ونظاماً سياسياً وقيادة، ولننظر في مآل المطبّعين والمهرولين واتفاقيات (السلام!!) الثلاثة للأشقاء، ولتكن حكمة القائد بشار الأسد وصموده نبراساً، خاصة قوله: (كلفة المقاومة أقل من كلفة الاستسلام).. هذا القول لا تكون سورية من دونه سورية، ولا العروبة عروبة أيضاً.. لذلك لا ينساه الأعداء ولا يتسامحون، هم وذيولهم، معه، ولا يمكن أن تُغمض لهم عين أمام قوّة حقيقته الأبدية أيضاً.