وسوى الروم
د. نضال الصالح
ليس ما عنى المتنبي في لاميّته فحسب، بل، أيضاً، كلّ ما ومَن يفترس هذا العالم، فيحيله، أو يكاد، إلى عماء مختلط بعماء. من لا يميز الحرية من المسؤولية، والاختلاف من الخلاف، والثورة من الثور، ومن لا يعنيه مما حوله سوى ما يعنيه نفسه. السوريون بالهوية الذين يرفلون بحرير الفنادق والقصور في عواصم الغرب والعرب على أشلاء وطن نذروه للذبح منذ ما يزيد على تسع سنوات. العربُ الجوفُ، الجامعة العربية الخصاء. الكتّابُ ركّاب الأمواج، المهرجون، الأدعياء.
وليس ما سبق لازمة، كما يبدو، في الخلق منذ كانت الخليقة، منذ قابيل وهابيل، إلى يهوذا، وبروتس، وأبي رغال، وابن العلقميّ.. وسوى ذلك ممّا ذكرَ التاريخ وما لم يذكر، بل كلّ مَن توهّم، أو أوهمَ، أو استوهم، بوصفه سياسياً، أو اقتصادياً، أو عالماً، أو مثقفاً، أو.. وهو لا يعرف من السياسة سوى أنها فنّ الممكن، ومن الاقتصاد سوى البيع والشراء، ومن العلم سوى شيء وغابت عنه أشياء حسب قول الشاعر: يا أيّها المدّعي.. ومن الثقافة سوى حدّ ابن خلدون لها، أي الأخذ من كلّ علم بطرف. فهؤلاء أيضاً لا يختلفون بشيء عن روم المتنبي بحقّ المجتمع، والوطن، والأمّة، ولا سيّما إذا تمكّنوا من مواضع صناعة القرارات في هذا المجال أو ذاك، وبهذه الدرجة أو تلك.
للأبشيهيّ في كتابه “المُستطرَف في كلّ فنّ مُستظرَف” هذه الحكاية: كان الضيزنُ بنُ معاوية بنُ قضاعة ملكاً بين دجلة والفرات، وكان له قصرٌ مشيدٌ يُعرفُ بالجوسق، وقيلَ إنّ مُلكه بلغَ الشامَ، وذاتَ يومٍ أغارَ على مدينة الملك سابور في الأكتاف، فأخذها وأخذ أختَ سابور، وقتلَ منهم خلقاً كثيراً، ثمّ إنَّ سابور جمَعَ جيوشاً وسارَ إلى الضيزن، وأقامَ على حصنه أربعَ سنين لا يصلُ منه إلى شيء. ولمّا أنْ جاء النضيرةَ بنت الضيزن ما يأتي النساء عادة كلّ قمر، وخرجتْ من الربض، كما كانت العربُ تفعلُ بالنساء إذا بلغَ القمرُ اكتماله لديهنّ، وكانت النضيرةُ من أجمل أهلِ دهرها، وكان سابورُ من أجمل أهلِ زمانه، فرآها ورأته، فعشقها وعشقته، وأرسلت إليه تقول: ما تجعلُ لي إنْ دللتكَ على ما تهدمُ به هذه المدينةَ وتقتلُ أبي؟ فقال: أحكّمُكِ، فقالت: فعليكَ بحمامةٍ مطوّقةٍ ورْقاءَ، واكتبْ عليها بدمِ شهرٍ قمريّ لجارية، ثم أطلقْها فإنّها تقعدُ على حائط المدينة فتتداعى المدينةُ كلُّها. وكان ذلك طِلِّسماً لا يهدمها غيره، ففعلَ ذلك، فقالت له: وأنا أسقي الحرسَ الخمرَ، فإذا صرعوا فاقتلهم، ففعل ذلك فتداعت المدينة وفتحها سابورُ، وقتلَ الضيزنَ، واحتملَ النضيرةَ، وأعرسَ بها، ثمّ إنّه بعدَ ذلك غدرَ بها وقتلها، فأمرَ رجلاً فركبَ فرساً جموحاً وضفَرَ غدائرها بذنبه، ثم استركضه فقطّعها قطعاً.
لا تتصدّع مؤسسة، لا يتصدّع مجتمع، وطن، أمّة، بعوامل خارجية وحدها، وإنْ تصدّعت، فلا بدّ أن يكون روم المتنبي هم العلّة والمعلول، والدالّ والمدلول، والجذر والأصول. وبعدُ، ففي حكاية سليمان الحكيم والأرضة ما فيها من الحكمة والمثل.