العلاقات عبر الأطلسي في ورطة …
إعداد: عناية ناصر
إن العلاقات عبر الأطلسي ليست في حالة جيدة، في حين أن عداء ترامب للاتحاد الأوروبي عامل مساهم في ذلك، إلاّ أن ذلك ليس العامل الوحيد، ولا حتى الأكثر أهمية. وبالنسبة لبقاء الشراكة عبر الأطلسي على المدى الطويل، فإن ما يحدث في أوروبا مهم، على الأقل بقدر أهمية نتيجة انتخابات تشرين الثاني القادم في الولايات المتحدة، ولن تكون هذه الشراكة قابلة للاستمرار إذا رفضت واشنطن القبول بها، أي إنه طالما بقي الأوروبيون ملتزمون بالمشروع الأوروبي، فإن أية تلميحات من الإدارة الأمريكية بتجاهل المشروع الأوروبي، أو العمل لتقويضه ستقابل بعدم الثقة على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي.
إن التفكير في أن التحالف عبر الأطلسي يمكن له أن يزدهر دون القبول بالاتحاد الأوروبي كجزء مهم من المشهد، أمر خيالي، كشأن اقتراح السناتور هاولي، بإلغاء منظمة التجارة العالمية، والبحث عن ترتيبات اقتصادية جديدة “بالتنسيق مع الدول الحرة الأخرى”، وكأن الدول الأخرى ستتسابق للعمل مع الأمريكيين بمجرد أن تدمر الولايات المتحدة حجر الأساس في النظام الاقتصادي العالمي.
ولكن، حتى إذا خفت حمى الشعبوية المسيطرة على اليمين السياسي، وتلاشى الاستخفاف بالاتحاد الأوروبي، فإن الاستخفاف الأمريكي، وبسبب ما هو عليه حال الاتحاد الأوروبي، سيبقى على الأرجح، يتجاوز، بصرف النظر عن أي شيء، المسائل الحزبية، كما أنه سابق لعهد ترامب. والأهم من ذلك، أن السبب في ذلك لا يمكن اختزاله فقط في نقص المعلومات أو قصور الفهم إزاء القيمة التي يشكلها الاتحاد الأوروبي. وبدلاً من ذلك، يمكن إثارة السؤال الدائم: بمن يمكن الاتصال إذا أراد المرء التحدث إلى أوروبا، ولا سيما إذا تعلق الأمر بالأمن على وجه الخصوص؟!، إن من الصعب على أية إدارة أمريكية أن تحاول التعامل مع الاتحاد الأوروبي أولاً، بدلاً من الحكومات الوطنية. أما النجاحات الأوروبية البارزة والنادرة، مثل عمليات مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، أو الدوريات البحرية في مضيق هرمز، فلم تكن نتاج فعل من الاتحاد الأوروبي، ولكنها نتجت عن تحالفات محددة قامت بها الحكومات الأوروبية الوطنية، بما فيها المملكة المتحدة.
وفي الموضوعات التي تهم الولايات المتحدة، والتي يمكن للاتحاد الأوروبي إن كان في وضع طبيعي، أن يلعب فيها دوراً كبيراً، مثل العلاقات التجارية مع الصين، أو السياسات تجاه الجوار، فإن الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي غالباً ما تقف حجر عثرة في وجه ذلك.
وفيما يتعلق بموضوعات الطاقة، فإن مبادرات الولايات المتحدة تلقى الترحيب في أوروبا الشرقية، حيث يشعر الكثيرون بالقلق من الاعتماد على الغاز الروسي، لكنها تلقى ترحيباً أقل في غرب أوروبا، المشغول بقضايا تخفيف نسبة انبعاثات الكربون. ومن المؤسف أن رؤية ترامب تعمق الانقسامات القائمة، وتقوض جهود قادة أوروبا الرئيسيين، ولاسيما عندما لا يحقق ذلك أي مكسب استراتيجي للولايات المتحدة، وعندما تكرر تعليقاته المستمرة حول خروج بريطانيا أو الهجرة دعاية القوى المعادية. ورغم ذلك فإن لا ترامب، ولا الولايات المتحدة، هما السبب الرئيسي في وجود الانقسامات بين دول الاتحاد الأوروبي، والتي يصعب معالجتها في كثير من الأحيان.
وبناءً عليه، فإن التكتل الأوروبي يواجه مشكلة أيهما أسبق الدجاجة أم البيضة، فمن ناحية، هو يدعو العالم، والولايات المتحدة خاصة، على أخذه على محمل الجد، ولكن من الناحية الأخرى هو لا يفعل الكثير لفرض هذا الاعتراف. إن سبب تعامل القوى الخارجية مع الحكومة الفيدرالية الأمريكية وليس مع حكومات الولايات هو سبب عملي، لا أيديولوجي ولا فكري، ذلك أن واشنطن والحكومة الاتحادية، تستطيع أن تنجز أشياء لا تستطيعها حكومات الولايات. وفي اللحظة التي تبرهن بروكسل أنها تستطيع أن تفعل أشياء لا تستطيعها الحكومات الوطنية في أوروبا، سيستمع لها الأصدقاء والأعداء.
لسوء الحظ، غالباً ما يتم، وبعد سلسلة من الوساطة التي سيقوم بها مفوض الاتحاد للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، تقزيم السياسة الخارجية والدفاعية المشتركة للاتحاد الأوروبي، إلى بنود إجماع لا تعكس إلاّ الحد الأدنى.
إن جذور المشكلة تكمن في شخصية الاتحاد، والذي هو أقوى بكثير من مجرد منظمة دولية، لكنه أقل بكثير من اتحاد فعال، إضافة لذلك، وبفضل عقود من الهيمنة العسكرية الأمريكية، فإن الاتحاد يفضل النظر إلى نفسه على أنه بلا أنياب، يتعين على الاتحاد الأوروبي تغيير طبيعته. لقد تم بناء الاتحاد الأوروبي كنموذج منفصل عن سياسات قوى عظمى، هذه السياسات التي أغرقت أوروبا في حربين عالميتين مدمرتين.
لكن أن تصبح أكثر صلابة لا يعني التخلي عن قيم الاتحاد الأوروبي، بل على العكس تماماً، فإن قدراً مهماً من الصلابة مطلوب لإنقاذ القيم المشتركة داخل الاتحاد نفسه. إن السماح لفيكتور أوربان للتحول بالمجر إلى نظام استبدادي في الوقت الذي سيستلم فيه مليارات اليورو من ميزانية الاتحاد الأوروبي هو سبيل حتمي لكي يجعل الاتحاد الأوروبي لا يفي بتطلعاته. كذلك فإن المحاضرات الأوروبية حول سيادة القانون والديمقراطية والقيم الأوروبية لا تلقى إلاّ الآذان الصماء من قبل المسؤولين والمواطنين في صربيا أو الجبل الأسود أو أوكرانيا.
فوجود المبادئ والقيم لا يعني النفاق والشلل، قد يستطيع العالم بما في ذلك الجوار المباشر للاتحاد الأوروبي، تطبيق المعايير الأوروبية، إلاّ أن عدم التعاطي معه بطريقة عملية وعدم الدفاع عن المصالح المشتركة للاتحاد الأوروبي يعني هزيمة ذاتية. كان استعداد الاتحاد للدفاع عن مصالحه مؤشراً جيداً، وليس خيانة للقيم الأوروبية، حتى لو جاء بعد فشل الخيارات الأخرى. الأمر ذاته ينطبق على مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والعقوبات ضد روسيا، أو “الصفقة التجارية” التي تم التوصل إليها عام 2018 بين الرئيس ترامب ورئيس المفوضية الأوروبية يونكر، وعلى الرغم من أنها كانت فارغة من المضمون إلى حد ما، إلا أنها أفسحت المجال للرئيس الأمريكي للادعاء بالنصر، وبالتالي جعلته يتخلى، ولو لبعض الوقت، عن توجيه ضربة التعريفات بشدة إلى الاتحاد الأوروبي.
هذه الأمثلة تشير إلى أن باستطاعة الاتحاد الأوروبي إبراز عضلاته لكي يؤخذ على محمل الجد، وهو يحتاج لعرض هذه العضلات في كثير من الأحيان. أحد أهم المجالات لذلك التجارة ووضع معايير دولية، كالتي تم تنشيطها في أعقاب استفتاء خروج بريطانيا عام 2016 تحت قيادة سيسيليا مالستروم. ولكن، ومن جديد، هناك حاجة إلى المزيد من الصلابة، خاصة أن التجارة مجال من مجالات السياسة.
ستكون الجائزة الكبرى للمفوضية الحالية، ولاسيما إذا كان هناك إدارة جديدة في واشنطن، العودة إلى اتفاقية تجارة حرة كبيرة بين ضفتي الأطلسي، والتي يمكن أن تكون مفتوحة لأطراف أخرى. والمسألة ليست اقتصادية بحتة فحسب، ولكن أيضاً جيوسياسية، ذلك أن المهم إدراك ما إذا كانت قواعد اللعبة ستبقى فيما تبقى من القرن الحادي والعشرين بأيدي الدول الغربية أم إن الغرب سينهار ويسقط فريسة للتجارة الصينية والاقتصاد الصيني.
هذا السيناريو البديل لا يجعله ممكناً كون الاتحاد الأوروبي سيبقى غير فاعل كعامل جيوسياسي إلى حد كبير، فحسب، ولكن أيضاً اتجاه الشراكة عبر الأطلسي إلى الذبول في النهاية.
في حين أن الأوروبيين الشرقيين على وجه الخصوص، يستفيدون بشكل كبير من المظلة الأمنية للناتو، فإنه لا يوجد من التعاون التقليدي بين ضفتي الأطلسي في مسائل الأمن والطاقة والتعامل مع البلقان وعالم ما بعد الاتحاد السوفييتي ما يكفي لجعل الأمريكيين يولون اهتمامهم على المدى الطويل. وبالفعل، فإنه في أماكن مثل كوسوفو لا ترى الإدارة الأمريكية الحالية أي جدوى للتنسيق مع الاتحاد الأوروبي. يجب على الاتحاد الأوروبي، لمنع تحول الشراكة عبر المحيط الأطلسي إلى مجرد ظل باهت لما مضى، أن يجعل نفسه شريكاً لا غنى عنه، ومعرفة ما يريد والاستعداد لتحمل عبء ذلك هو الخطوة الصحيحة الأولى في ذلك!.