“ضبو الشناتي”.. الوجع السوري المستمر!!
تحكي أحداث مسلسل “ضبو الشناتي” قصة عائلة سورية، تتنازعها فكرة البقاء في الوطن، أو النزوح عنه، بسبب هول الحرب، وأصوات الرصاص والقنابل. “ضبو الشناتي” الرحيل، قرار تتّخذه العائلة في النهاية، لتواجه عراقيل وعوائق في كل حلقة من حلقات المسلسل المنفصلة-المتصلة، وفي النهاية تتمكن من السفر، ومغادرة أرض الوطن، ولكن إلى مكان آخر.
“ضبو الشناتي” (للكاتب ممدوح حمادة والمخرج الليث حجو) من المسلسلات ذات البعد الإنساني العميق، قصة المسلسل ببساطة تتمحور عن الأيام الأخيرة لعائلة تنوي الهجرة سنة 2014، الأيام الأخيرة في البلد، الأيام الأخيرة في الحياة، العمل المشحون بالعواطف، والحديث عنه ذو شجون، فبمجرد ذكر المشهد الأخير عند وصول الماء المنتظر إلى حنفية المنزل وفيضان المغسلة واقتران هذا بنبأ غرق العائلة التي طالما عانت خلال الحلقات كلها للمغادرة، هذا بحد ذاته حالة حقيقية للحزن والخوف في عالم غريب يسلب منا حتى ما هو مر.
استطاع ممدوح حمادة نسج كوميديا من طراز عالي المستوى تتمازج فيها درجات الأسود المؤلم المبكي مع لمسات الفرح والضحكة المنتزعة من رحم تلك المعاناة، ويلون مفارقاتنا اليومية جميعاً بألوان من الضحك العفوي، كنا نشاهد ذاتنا جلية واضحة شفافة كما هي بطيشها بعقلها بميولها وبارتدادات الأزمة على العائلة السورية، ومن تلك الخلطة المتنوعة أبدع حمادة في مزج ألمنا بضحكتنا بإتقان قل نظيره.
يقول الشاعر محمد مهدي الجواهري معبراً عن ألمه الناتج عن عدم حصوله حتى على أقل طموح كان يسعى إليه:
يا دجلة الخير! قد هانت مطامحنا حتى لأدنى طماح غير مضمون
هكذا هو حال العائلة التي سعت إلى الغربة، ولم تحصل عليها، فبعد أن كان التغريب عقوبة يعاقب بها الإنسان سابقاً إلا أنها أصبحت نتيجة حتمية خلال سنوات الحرب، أما في الوقت الحالي فقد صارت الغربة طموحاً للكثيرين الذين فرضت على بلدانهم الحروب القاسية والأسعار الخيالية ولا يستطيع الإنسان العيش في وطنه، يناضل الأب “خليل -بسام كوسا” مع الزوجة والأولاد، تارة للحصول على الماء وتارة أخرى للحصول على الغذاء بأحداث لا تخلو من الكوميديا الساخرة والمواقف الغريبة، ولا ينسى القائمون على المسلسل الحارة الدمشقية وأجواء المودة بين الجيران وغيرها من التفاصيل التي تصور للمشاهد مدى الخسارة المستقبلية للعائلة الرامية إلى الهجرة، فالقارة العجوز جميلة ومنظمة نعم، لا يمكن نكران ذلك لكنه المنفى، المنفى الذي يعبر عنه الشاعر ولاس ستيفنز على أنه ذهنية الشتاء، حيث تكون عواطف الصيف والخريف مثل العواطف الكامنة للربيع، قريبة لكنها ليست في المنال، قوة قسرية لا تنحسر بين الكائن البشري وموطنه الأصلي، وبين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلب على الحزن الناجم عن هذا، وأي كانت إنجازات المنفي، فإنها خاضعة على الدوام لإحساس الفقد، لكن العائلة تلك التي نعيش معها تجارب حلوة ومرة لم تذق حتى طعم المنفى، حيث أسدل الستار على حياتهم بنبأ صادر عن مذياع نقطة الحراسة في ذلك الحي القديم الذي كانوا يقطنوه، يذاع الخبر على أنهم أرقام، وما هم بأرقام، هم الذكريات والطموح والأحلام المشروعة، هم ذاك الزمن الذي عشناه معهم وذكرنا بزمننا نحن في المعاناة كيف قضيناه فرحاً وألماً عذاباً وصحة، فراق ولقاء حب وكراهية، “ضبو الشناتي” ياريتنا رحلنا معهم.
يستمر الماء بالتدفق ليتسرب من تحت الأبواب، أبواب بيت العائلة آنفة الذكر، أما الحراس في الحارة، فكانوا يأكلون ويلعبون بعد أن أنهكهم التعب في ظهيرة حزينة، هم لا يدركون فاجعة الخبر، مثلهم مثل كل إنسان يستخدم المذياع كأنيس لتبديد وحشة الساعات الطويلة والروتين اليومي.
في النهاية، وكما قال سعد الله ونوس: “إننا محكومون بالأمل”، فرغم كل هذا لا يمكننا إلا أن نؤمن به وأن نستلهم الدروس الإنسانية والعبر من تلك الأعمال لتكون بمثابة لقاح يطرد وجه الحزن الأثيم الذي يسعى للنيل منا و من آمالنا .
جمان بركات