حوار الثقافي والسياسي
محمد راتب الحلاق
العلاقة بين الثقافي والسياسي متوترة عبر التاريخ، فالمثقف يعد نفسه أكبر من السياسي، والسياسي يعد المثقف مثالياً في حين أن السياسة عمل براغماتي قد يؤدي إلى التنازل عن المبادئ حين تتعارض مع المصالح.
ومن طبيعة المثقف أن يتعالى عن المعطى، ولا يرضى بأقل من الممكن في حدوده القصوى. بينما يرى السياسي في ذلك مجرد شعارات لا تنصرف في الحياة الواقعية.
ولولا الممكن، حسب المثقف، لبقي الناس في أماكنهم، يجترون حياة نمطية مملة ببلاهة المخلوقات الأخرى. ويعترف السياسي بذلك، لكنه يتهم المثقف بأنه لا يكتفي بصياغة الأحلام، بل يحاول أن يحولها إلى إجراءات يتولى بنفسه عملية الانتقال بها من الواقع المشخص إلى المجتمع الممكن.
ويتساءل المثقف: ما المانع؟ أليس المثقف مواطناً له من الحقوق ما للآخرين؟ المشكلة تكمن في السياسي المتعنت، الذي لا يلبث أن يتغلب على المثقف، ويقوم بتدجينه وإخضاعه.
من الواضح أن المثقف يحاول أن يقدم نفسه كمواطن متميز، له من الحقوق أكثر مما للمواطنين الآخرين، ويمنح نفسه باسم الثقافة، مزيداً من الامتيازات، مستهيناً بالآخرين، فهم مجرد دهماء ورعاع ينبغي وضعهم تحت الوصاية، وبذلك تتأكد نخبوية الثقافة بدل إشاعتها وتعميمها بوصفها حاجة من حاجات الإنسان العليا، لتكوين المواطن المتمتع بالفكر الناقد، وأنها حق من حقوق الإنسان، وضرورة من الضرورات التي تساعده في اتخاذ القرارات الملائمة في مواجهة المستجدات؛ أما أفراد النخبة أو الطليعة، أو الأنتلجينسيا فهم منتجو الثقافة وصانعو الأفكار، وهؤلاء لا يتولون مناصب سياسية إجرائية عادة، وفي الحالات الاستثنائية التي تولى فيها بعضهم مناصب إجرائية كان الإخفاق حليفهم. بحسب أفكار المثقفين أن تقوم بدور الملهم النظري للسياسات، وهذا لا يعني أن السياسي غير مثقف وإنما يعني أن على السياسي مهما بلغت ثقافته، أن يعمل ضمن فريق في إطار الخطة العامة الموضوعة من قبل الآخرين (بغض النظر عن موقفه الشخصي منها).
أفكار المثقفين تتكلم عما ينبغي أن يكون وليس عما هو كائن، مع الاعتراف بأن هذه الأفكار، في كثير من الحالات، ظلت مجرد وصفات ذهنية لا تنصرف في الواقع، لكنها ألهمت المصلحين عبر التاريخ ما قاموا به من أعمال عظيمة. هذا هو دور المثقفين والمفكرين الحقيقي، أما أن تراودهم فكرة قيادة الإصلاحات بأنفسهم، بوصفهم مثقفين لا سياسيين، فهذا ما لم ينجح أبداً، لأن العمل السياسي بحاجة إلى مرونة وقدرة على المناورة وتدوير الزوايا، الأمر الذي يأباه المثقف. ثم إن العمل السياسي يحتاج إلى حامل اجتماعي من الناس الذين يجدون فيه تجسيداً لمصالحهم، لأن الاغتراب عن الناس أدى إلى إخفاق أصحاب الخطاب الثقافي في تحويل أفكارهم إلى مؤسسات فاعلة، فالوقائع لا تستجيب للوصفات الذهنية المجردة والمتعالية. ثم إن الثقافة بحد ذاتها لا تشكل رابطاً يجمع المثقفين، نتيجة اختلاف المصالح الاجتماعية والاقتصادية، الأمر الذي سيؤدي إلى تشظي أي تحالف بينهم بمجرد اصطدامه بتناقض المصالح، لأن ما يجمع المثقفين لا يزيد عن قشرة هشة من العموميات والأفكار الصورية التي لا يختلف أحد حولها، نظراً لبداهتها، فالعمل السياسي ليس حواراً ذهنياً، وإنما هو تنافس بين برامج ومشروعات، لكل مشروع مثقفوه ومفكروه ومناضلوه.
بقي أن أقول: إن المثقفين أنماط، منها المثقف العضوي حسب تعريف غرامشي، وهو مندمج مع الشريحة التي ينتمي إليها. وهناك المثقف المفارق الذي همه حفظ المعلومات والمصطلحات، وصدق من سماه (فأر المكتبات)، وهناك المثقف الانتهازي والوصولي الجاهز لخدمة من يدفع أكثر.